موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الجمعة، ١٥ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠١٩
أخلاقية الثورة والتغيير

عامر الحافي :

ليست الثَّورة انفعالًا غريزيًّا؛ وإنَّما هي فِعل أخلاقيٌّ واعٍ، يدرك فيه الإنسان كرامة ذاته، وقيمة إرادته وروعة حرِّيَّته. والثَّورة على الظُّلم بما يتضمَّنه من اضطهاد وفساد، هي ثَورة على الخوف والأنانيَّة، وانعتاقٌ من سُلطة الهُويَّات الطَّائفيَّة والعشائريَّة.

التَّشكيك في أخلاقيَّة التَّغيير والثَّورة على الظُّلم والفساد، هو شكل من أشكال التَّرويج للطُّغيان. والحديثُ في شرور المعارضة باعتبارها سببًا للفوضى، لم يعُدْ يُجْدي نفعًا مع زيادة مساحة الخراب الَّذي تُنتجه النُّظم السِّياسيَّة الفاسدة. أيضًا فإنَّ التَّغنِّي بالأمن والاستقرار بعيدًا عن تحقيق العدالة والمساواة، لم يعُدْ في نظر الشُّعوب سوى ذريعة لاستدامة الفساد والطُّغيان.

تقتضي الأخلاق بمعناها الإنساني أن نُساند المظلوم مهْما كان دِينه، وأن نرفض تأييد الظَّالم أيًّا كانت هُويَّته. فمثلًا: يُطالِبُ إرْمِيا النَّبيُّ بالوقوف مع المظلومين قائلًا: “هكذا قالَ الرَّبُّ: أَجرُوا حقًّا وعدلًا، وأَنْقِذُوا المغصُوبَ من يد الظَّالمِ، والغريبَ واليتِيمَ والأرملةَ. لا تضطهِدُوا ولا تظلمُوا” (سفر إرميا 22: 3). إنّ الظُّلم هو النَّقيض الأعظم للدِّين والأخلاق، والكافرون هم الظَّالمون لخلق الله، وليسُوا مَن يُولَدون على ديانة غير ديانتنا: {والكَافرُونَ همُ الظَّالمُونَ} [البقرة: 254]. وفي العهد الجديد نجد المعنى ذاتَه فيما ورد فيه: “أَمْ لَسْتُمْ تعْلمُونَ أنَّ الظَّالمينَ لا يرثُونَ ملكُوتَ اللهِ؟” (كورنثوس الأولى 6: 9).

يَذكر القرآن أنَّ من أسباب طغيان فرعون استخفافَه بقومه، وهي كلمة تنطوي على معنى الاحتقار والازدراء: {فاسْتَخَفَّ قوْمَهُ فأطاعُوهُ} [الزُّخرف: 54]. فالمستبِدُّون لا يُقْدِمون على ظُلم أقوامهم، إلَّا عندما يستخفُّون بهم وبقدرتهم على الرَّفض والممانعة. ومِن أسوأ أنواع الظُّلم، هو ذلك الَّذي يرتكبه الطُّغاة بِاسْم الشَّعب. والشُّعوب الَّتي ترضى بانقساماتها وتستسيغ ضعفها، هي شريكة في الجريمة والظُّلم. إنَّ النُّظم القمعيَّة تعمِّق الإحساس بالانقسام بين أبناء الوطن الواحد، ليَسهل إخضاعهم واستعبادهم: {إِنَّ فرْعوْنَ علا في الأَرضِ وجعلَ أَهلَهَا شِيَعًا يستَضعِفُ طائفةً مِّنهُم يُذبّحُ أَبنَاءهُم ويستحيِي نِسَاءَهُم إنَّهُ كانَ منَ المُفسدِينَ} [القَصص: 4]. فالعُلوُّ والطُّغيان السِّياسيُّ ما كان له أن يقُوم، إلّا بتقسيم النَّاس إلى مجموعات مختلفة ومتصارعة.

إعادة النَّظر في النَّهج الَّذي تقُوم عليه البرامج السِّياسيَّة والاقتصاديَّة، هي من ضمْن أولويَّات النُّظم الدِّيمقراطيّة. وغياب المراجعة الصَّادقة والعميقة، ويأسُ النَّاس من وجود أمل بالإصلاح الدَّاخليِّ الهادئ، هُمَا ما يدفعان الشُّعوب إلى الخروج إلى الشَّارع والمطالبة بالتَّغيير والإصلاح. أيضًا فإنَّ عدم تحمُّل العقلاء لمسؤوليَّاتهم عن رفض الطُّغيان، وإصلاح نُظمهم السِّياسيَّة بالوسائل السِّلميَّة، يفتح المجال أمام دعاة العنف والانقسام ليتصدَّروا مَشهد التَّغيير، وليَقُودوا المجتمع نحو الهاوية. وتَكمن خطورة الفساد في تقويضه لقيم العدل والأمانة والمُواطَنة، وجعْلِ النَّاس يَشعرون بأنَّهم لا يملكون شيئًا في أوطانهم، ولا دور لهم في تحديد مصيرهم أو مصير أوطانهم.

إنَّ تدوير المَناصب السِّياسيَّة وحصْرَها في طبقة محدَّدة، هو أحد أسباب الطُّغيان والفساد. لكن الفساد يَبلغ ذرْوَته عندما ينجح الطُّغاة في تعميمه، حتى يستسيغه الكثيرون ولا يَعُود لديهم شعور بقيمة العدل والإصلاح. وهكذا، ما دام الجميع فاسدين، فلا يحقُّ لأحد أن يَلُوم أحدًا! لكن، ليس السُّكوت فضيلة في جميع الأوقات. فالسُّكوت عن الظُّلم يروِّض النَّفس على النِّفاق والخنوع، والسَّاكتون عن الظُّلم هم شركاء في الجريمة. ومِن أعجب العجائب أن يَصمت مَن لا يجد في وطنه قُوتَ يومه عن نُظم سياسيَّة واقتصاديَّة، تستحوذ على خيرات بلاده وتستبيح كرامته!

نجاح الثَّورة، هو التَّحدِّي الأكبر لقيمها الأخلاقيَّة ورُوحها الوطنيَّة. أمَّا الشُّعور بغرور الانتصار، والرَّغبة في تصفية النُّظم السِّياسيَّة السَّابقة باعتبارها الإنجاز الأهمَّ للثَّورة، فليس سوى ملهاة أطفال، تَحُول دون تحقيق المضامين الأخلاقية للثَّورة على الأرض. وهنا، نلاحظ الفارق بين ما حقَّقه نلسون منديلا في جنوب أفريقيا عندما قام بالعفو عن مخلَّفات “نظام الأبارتيد” في جنوب أفريقيا، وما حدث في العراق من ملاحقةٍ واستئصالٍ لحزب البعث، وما أدَّى إليه من عنف وانقسام في المجتمع العراقيِّ.

إنَّ مقاومة الظُّلم والطُّغيان لا يتقنها إلَّا الأحرار والحُرَّات، الَّذين يرفضون الخضوع والاستعباد. وهنا، لا بدَّ أن ندرك أنَّ فضيلة المقاومة والدِّفاع عن الأوطان، لا تكتمل إلَّا بفضيلة الإصلاح ورفض الظُّلم والفساد. فمواجهة الفساد والظُّلم الدَّاخليَّين، وبناء الدُّول، يحتاجان إلى نضال ووعيٍ يتجاوزان تحقيق انتصار عسكريٍّ، مهْما كانت أهمِّيَّته.

(تعددية)