موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر السبت، ١٥ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠١٤
أخلاقيات الإعلام في الأردن: مسألة لها خمسة جوانب

أ.د. عصام سليمان الموسى :

حين تصدر نقابة الصحفيين بيانا تدعو فيه وسائل الاعلام الى «ممارسة عملها في اطار مواثيق الشرف الصحفي وعدم اللجوء الى الابتزاز والتشهير والتجريح واطلاق الاشاعة والإساءة الى كرامات الاسر والانفراد والكف عن جميع الممارسات التي تسيء لمصداقية الإعلام وذلك نتيجة «ورود شكاوى للنقابة من مؤسسات عامة وخاصة وافراد يشكون فيها عمليات ابتزازية والتهديد بفتح ملفات حال دون تحقيق مطالبهم بطرق غير شرعية» (الرأي، 6/ 11/ 2014)، فان هذا يعني ان مسألة الأخلاقيات «تأزمت» وصارت بحاجة لوضع حلول جذرية.

بداية، سأذكر الحقائق التالية المتعلقة بتخصص الإعلام والصحافة:

اولا: ان الأخلاقيات الركن الأساس في ممارسة الاعلام، لأن الاعلامي يبحث في الشأن العام.

ثانيا: ان الإعلامي بحكم تخصصه هو وكيل للشعب وممثل له: هو/هي يجمع المعلومات ويحللها لخدمة الصالح العام ويقدمها للمتلقي ليساعده في اتخاذ القرار الصائب.

ثالثا: يصنف الاعلام «علما صعبا» (Harder science)، لأنه بحاجة لمهارات متعددة.

في ضوء هذه الخلفية، هناك خمسة جوانب ذات صلة بالعملية الأخلاقية استخلصتها من تجربتي العملية والأكاديمية في الاعلام، هذه التجربة التي بدأت منذ عام 1968.

أولا- قيم الأخلاقيات:

تستدعي عملية ممارسة الاعلام انضباطا أخلاقيا عاليا من ممارسها، ويتمثل هذا بأمرين: دراسة قيم الخير والجمال والحرية والمسؤولية الاجتماعية والعدالة دراسة فلسفية واعية وتمثلها، بما يصاحب ذلك من التزام قومي بالمصلحة العليا للوطن.

ومن الهنات التي لمستها في مقررات الأخلاقيات، ان الأساتذة الذين كتبوا فيها ارتكبوا أخطاء علمية مكلفة، بمسألتين: الأولى، تجاهلهم التام لمفهوم في الأخلاقيات غاية في الأهمية، وهو مفهوم «الانصاف» –Fairness- الذي عربوه بالعدالة. بل ان مؤتمرا عقد مؤخرا في الأردن تحت هذا العنوان برعاية دولة رئيس الوزراء عبد الله النسور بالتعاون مع صندوق النقد الدولي والصندوق العربي للإنماء والتنمية بعنوان (بناء المستقبل..الوظائف والنمو والمساواة في العالم العربي)، ولفت نظري ان العنوان بالعربية يختلف جذريا عن العنوان بالانجليزية الذي جاء على النحو التالي:
Building the Future: Jobs, Growth and Fairness in the Arab World

حيث تم تعريب كلمة fairness بالمساواة وهذا خطأ فادح لأن هذه الكلمة تعني «الإنصاف». والمساواة بالانجليزية تعني Equality وهي إحد شعارات الثورة الفرنسية. وهذا يعني ان المؤتمرين تحدثوا عن أمرين متباينين: تحدث الأردنيون عن المساواة، وتحدث الأجانب عن الإنصاف. والفارق بينهما كبير. فهل تحدث الفريقان بلغة واحدة؟؟

أما على المستوى الأكاديمي، فان الباحثين يواجهون، مثلهم مثل الطلبة، صعوبة في التفريق بين مصطلح «الإنصاف»، الذي عربه بعض الباحثين في أخلاقيات الإعلام «بالعدالة»، وهي بالانجليزية تعني Justice.

هناك بون شاسع بين «الإنصاف» وبين «العدالة» والمساواة، فتعبير «الإنصاف» يقوم على مبدأ أخلاقي في الاعلام مستقل عن المصطلحين الآخرين، ويعتمد على قدرة الصحفي في «تفهم» أفكار الفرقاء ودوافعهم وغاياتهم، وهم الفرقاء الذين يغطي أخبارهم بصورة تؤدي الى تقديم الحقيقة للمجتمع ناصعة لا يظلم فيها أي طرف من الأطراف الذين يتحدث عنهم الخبر.

والأمرالثاني المرتبط بالأخلاقيات: ضرورة الالتزام بمصالح الوطن العليا. وهذه تنبثق من معرفة جيدة لتاريخ الوطن وتضحيات الأباء التي قدمت. ومن المفارقات العجيبة في جامعات الأردن، أن الطلبة، ومنهم طلبة الإعلام، لا يدرسون تاريخ بلدهم، فلا يعرفون شيئا عن بنيانه. ولأن قوانين المسؤولية الاجتماعية تلزم الصحفي بمراعاة مصالح الوطن العليا، فهذا الالتزام غائب عند عدد كبير من الصحفيين.

ثانيا- البيئة التعليمية الأكاديمية:

في الأردن سبع جامعات تمنح درجة البكالوريوس والماجستير في تخصصات الاعلام المختلفة (اليرموك،البتراء، الشرق الأوسط، الزرقاء، جدارا، فيلادلفيا، ومعهد الاعلام الأردني المرتبط بالجامعة الأردنية). وقد بدأت الجامعات الأردنية منذ عام 1980 بتدريس التخصص. كانت البداية في جامعة اليرموك. ومع موجة انشاء الجامعات الخاصة تنامت الأقسام والكليات.

توسعت دراسة الاعلام بعد ان اشتد عليه الطلب مع قدوم الثورة الرابعة في الاتصال منذ التسعينيات من القرن الماضي. ومع زيادة الاقبال على التخصص، تسابقت الجامعات الخاصة، على فتح ألأقسام والكليات لتخصص الاعلام. وكان من نتيجة هذا الفيض ان عمدت الجامعات الخاصة خصوصا، على تغليب البعد التجاري على القيمي في التعليم: أبلغني رئيس جامعة خاصة، بان التعليم في جامعته يخضع «لقانون العرض والطلب». وكان من نتائج هذه السياسة، كما لمست بنفسي، بروز الأمور التالية: قبول الطلبة في المساقات حتى في منتصف الفصل، تخفيض رواتب الأساتذة حين يتوفر بديل أرخص، البحث عن حملة الدكتوراه الأقل تكلفة بغض النظر عن قدراتهم، وعدم الالتفات لأخلاقيات العمل الأكاديمي كالسرقات الفكرية. هذه السياسة، «العرض والطلب»، أثرت على معنويات معظم الأساتذة في الجامعات، وسوغت لهم التخلي عن أخلاقيات العمل الأكاديمي، اذ صار ينصب هدفهم على الحفاظ على مصدر رزق عيشهم، خاصة الوافدين منهم، وكسب ود الطلبة، وتقديم الأسهل لهم، ومنحهم بالتالي الشهادة بأقل جهد: فكانت النتيجة خريجين غير مؤهلين بدأوا ممارسة التدريس أنفسهم بعد حصولهم على شهادة الدكتوراه من جامعات تجارية يمتلـىء بها الوطن العربي. وعانت أخلاقيات الإعلام بالنتيجة جراء ذلك.

ثالثا- المتطفلون على الاعلام:

الاعلام مجال مفتوح للتنظير وذلك بسبب ان كل انسان يتعرض لوسائله المختلفة ويستطيع ان يقدم رأيا فيها. والعديد من المسؤولين الذين استلموا مناصب حساسة في الاعلام لم يتدربوا التدريب الأكاديمي الكافي، فحولوا الاعلام إلى أبواق. ومع استشراء انتشار الجامعات الخاصة، استشرت ظاهرة الأكاديمي المتطفل، وتحقق ذلك حين طبقت (هيئة اعتماد مؤسسات التعليم العالي) سياسات زادت الوضع تفاقما، حين سمحت لفئة من القادمين من تخصصات أخرى–مثل علم الاجتماع، او ممن يحملون شهادة الدكتوراه، وبالصدفة، او الواسطة- درّسوا مساقا في قسم الاعلام او عملوا فيه، صارت الهيئة تسمح لهذه الفئة بتدريس تخصص الاعلام، ومنهم من صار عميدا لكليات الصحافة في الجامعات الخاصة، وعضوا في مشاريع الأخلاقيات والمجالس الصحفية الحكومية. وهكذا تمدد تأثيرهم ليتجاوز التعليم الذي لا يؤمن بالأخلاقيات، إلى وضع قوانين ذات صلة بأخلاقيات الاعلام التي هي براء منهم.

ويرتبط هذا الأمر بالتهاون في موضوع الإيفاد لبعثات الدكتوراه للخارج: اذ يتم ايفاد مبتعثين دون ان يعملوا في الصحافة ويمارسوا المهنة في الميدان. وهذا الأمر يزيد من تفاقم الوضع، فالاعلامي الذي مارس المهنة ثم تخصص أكاديميا فيها اقدر على ايصال الخبرة لطلبته من ذاك الذي لا خبرة لديه.
كذلك، هناك تهاون في معالجة مشكلة السرقات الفكرية في الجهاز الأكاديمي: تتهاون الجامعات الرسمية والخاصة بموضوع السرقة الفكرية تهاونا مبالغا فيه. في الجامعات المحترمة في الخارج يفصل مرتكب هذه الجريمة من وظيفته وربما يجرد من شهادته.

رابعا: المؤسسات الرسمية والأخلاقيات:

تسهم المؤسسات الرسمية بعملية الحط من التخصص: فمجالس الإدارة نادرا ما تضم أكاديميا مشهوداً له. بل ان هذه المؤسسات تعمد أحيانا لتعينن أكاديميين «كخبراء» يقدمون لهم دراسات ميدانية تجيء ناقصة لكنها تلبي حاجة المدراء وصناع القرار في تلك المؤسسات «لصكوك غفران» من أجل الدعاية «لمنجزاتهم/او بضاعتهم» باعتبار أنها صدرت من أكاديمي «مرموق».

خامسا- الخلط بين الإعلام والعلاقات العامة:

ومن أخطر ما نواجهه في أخلاقيات الاعلام في الأردن الخلط بين مفهومين في الاتصال الجماهيري هما: «الاعلام» و»العلاقات العامة». علميا، يركز «الاعلام» على نشر «الحقائق» التي يتوصل لها الاعلامي المتخصص لتنوير أفراد المجتمع ومساعدتهم على اتخاذ القرار الصائب. والإعلامي، كما اشرت أعلاه، يمثل ضمير المجتمع. بالمقابل، تعمل «العلاقات العامة» على «لي الحقائق» لتقديم الصورة الأجمل. ولا يحتاج الأمر لذكاء كبير لتبيان ان اعلامنا في الأردن في أغلبه علاقات عامة – لا أكثر.

ومن أخطر مظاهر هذا الأمر، تهاون المؤسسات الرسمية ونقابة الصحفيين ومواثيق الشرف الإعلامي في أنها تسمح للاعلامي /الصحفي بالجمع بين وظيفتين: فهو «صحفي»في جريدة في المساء، وضابط علاقات عامة في مؤسسة أخرى في الصباح. وتتجاهل هذه المؤسسات والمواثيق ان الجمع بين وظيفتين سيسبب (تضاربا في المصالح): اذ كيف نتوقع من «صحفي» في جريدة ما ان ينشر «حقيقة» ما يحدث في مؤسسته التي يعمل فيها»ضابط علاقات عامة» بأجر ثان؟ ان مثل هذا الصحفي لن يقوم بعمله المجرد، وسيعمل على «لي الحقيقة»، وبذا لا يصبح مؤتمنا على تقديم الحقيقة لجمهوره، وذلك عمل بعيد عن أخلاقيات العمل الإعلامي.

الخاتمة

ان أخطر التحديات الأخلاقية التي تواجهنا في المرحلة الراهنة، والذي لا يجوز غض الطرف عنها، هي مبدأ حرية التعبير مقابل تكميم الأفواه: كممت أفواهنا قرونا طويلة حتى لم نعد نحسن الكلام بلغة واحدة. دائما هناك لغة مزدوجة. وما دام هناك خوف قابع في النفوس من قول الحقيقة دون مجاملة، سيبقى الإنسان العربي متخلفا. وحرية التعبير في وطننا مشكلة: فهي جديدة علينا، لم نمارسها أصلا في بيوتنا ومدارسنا، لكن فرضتها علينا حتمية تكنولوجيا الاتصال التي أطلقتها مع قدوم الثورة الرقمية، فخرجت مليئة بالأنين والتوجع، ولما سمعنا صوتنا المقهور بعد السكوت الطويل، جاء نشازا غريبا شق الحناجر وأدماها. اُطلقت حرية التعبير من قمقم الربيع العربي عام 1989، وكانت البداية من الأردن، إثر هبة نيسان المعروفة، اذ تم الغاء الأحكام العرفية، وتلا ذلك انتخابات نيابية جاءت بمجلس نواب قوي أصدر قانون الاحزاب عام 1991 وقانوناً ليبرالياً للمطبوعات عام 1993، إضافة الى الميثاق الوطني عام 1992.

فالسؤال اذن: كيف لنا ان نتعاطى حرية التعبير لتصبح مكونا يسري في الدماء؟ وكيف للصحفي ان لا يمارس الانتهازية-كما ورد في بيان نقابة الصحفيين في المقدمة أعلاه- ويلتزم بالأخلاقيات؟

نتعاطاها بنجاح حين نعي ان لحرية التعبير ثمناً عالياً: فهي مرتبطة بقيم الصدق والأمانة والأخلاق الرفيعة والجمال والإخلاص والنزاهة والموضوعية والنقد العقلاني والانتماء للوطن.

ان تخلي الإعلامي: بدءاً بالصحفي الذي يعمل في وسائل الإعلام، وانتهاء بالصحفي المواطن، عن هذه القيم، معناه خروجه عن قوانين مهنته المقدسة، وممارسته استقواء الكلمة «الخفيفة»، اللامسوؤلة، وتغليب الثرثرة والإشاعة والقيل والقال والوتوتة، مما يجهد أنفسنا، ويضيع وقتنا موهما اننا ننتج شيئا مفيدا، وهو ليس ذلك، فتصبح وسائل الإعلام سلاحا خطيرا موجها علينا، بدل ان تكون لنا ومعنا.