موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الأربعاء، ٥ سبتمبر / أيلول ٢٠١٨
«كايسيد»... الآخر في الحوار والتعاون

إميل أمين :

تبقى إشكالية الأحادية الذهنية واحدة من أخطر العقبات التي تعوق التواصل المجتمعي في عالمنا العربي، وتتعدد أنواع تلك الأحادية، فمنها ما هو متصل بالعرق، وآخر بالنوع، وثالث بالمعتقد والمذهب، وهذا الأخير يدخلنا في صراع ما يسمى بصراع المطلقات التي لا تقبل الشراكة، وعليه يكون الصدام غالباً هو الحل.

في هذا السياق، كان لا بد من حركة مجتمعية عربية لإعادة ترتيب الأفكار، وبناء أجيال عربية جديدة مؤمنة بجدية الحوار والجوار، وبفتح أبواب التعاون واسعة لعالم من الشباب العربي، الذي يمثل من حسن الطالع النسبة الأكبر عددياً.

كان لمركز الملك عبد الله بن عبد العزيز العالمي للحوار بين الثقافات والأديان (كايسيد) في فيينا، دور رائد في هذا المجال، تزخمه إرادة وإدارة تسعى لفرح اللقاء مع الآخر، وفي ظل صحوة داخل المملكة يقودها الأمير محمد بن سلمان ولي العهد، الذي تحدث طويلاً عن التجديد والإبداع، عطفاً على الوسطية وسماحة الأديان وقبول الآخر، باعتباره شريكاً في بناء الحضارة الإنسانية، وبغض النظر عن اسمه أو وسمه.

في الفترة الواقعة ما بين 31 أغسطس (آب) والثالث من سبتمبر (أيلول) الجاري، كانت العاصمة اللبنانية بيروت تشهد منتدى للشباب العربي للحوار بين الأديان والثقافات، تحت عنوان «الآخر في الحوار والتعاون» تحت رعاية «كايسيد»... لماذا مثل هذا المنتدى في الأوقات الحالية؟

في صراحة لا تشوبها التواءات أو مداراة للواقع العربي، ورغم حسن نيات قيادات عربية كثيرة في هذا الإطار، ورغم المجهود والتعهدات من أجل تعزيز الحوار وتجذيره عبر أكثر من عقدين من الزمان، فإن نظرة فاحصة مدققة لعالمنا العربي، تبين لنا كيف أن مظاهر التعصب ما زالت تلقي بظلالها على المناخ الاجتماعي والثقافي في معظم بلدان المنطقة التي تشهد أعلى معدلات للصراعات والعنف، الأمر الذي يدفعنا للتساؤل: أين العطب رغم الاحتفاء السياسي والديني بمبادئ التنوع والتعددية الثقافية؟

يبدو أن الإجابات تمضي في أكثر من طريق، أخطرها تأثر مسألة قبول الآخر بمجالات الصراع والاستقطابات السياسية والدينية، وهي حواضن في واقع الحال سلبية إلى أبعد حد ومد، ولا تدفع جهة «فرح اللقاء»؛ بل تعزز من مناخات الإقصاء والتهميش والتمييز.

عطفاً على ذلك، فإن ثمة كثيراً من المعوقات والقيود التي ما زالت تحول دون وجود مبادرات فعالة، تستهدف تعزيز الحوار من خلال المؤسسات الإعلامية والثقافية، وأنظمة التعليم الرسمي وغير الرسمي.

حين تؤمن «كايسيد» بفلسفة الحوار وقبول الآخر، فإنها في الحقيقة تصيب عصافير كثيرة وليس عصفوراً واحداً، فهي عندما تقرب الشباب بعضهم إلى بعض، فإنما تزيد من متانة وقوة النسيج المجتمعي العربي، ما يجعله «عَفِياً»، ولا يمكن اختراقه بفتن داخلية أو مؤامرات خارجية، ناهيك عن حروب الجيل الرابع والخامس بمد التفتيت والتفكيك من الداخل. إضافة إلى ما تقدم، فإن القائمين على مركز الملك عبد الله بن عبد العزيز العالمي، يؤمنون جيداً - والحديث للسيد فهد أبو النصر مدير المركز - بأن كل مربع يتم ملؤه بقدرات الحوار والجوار والعيش المشترك هو مربع مضاد للإرهاب، آفة العصر الحديث، و«كايسيد» يرى أن كثيراً من الشباب العربي قد أضحى ومن أسف شديد عرضة لأفكار التعصب، وكثيراً منهم قد جرى استقطابه إلى دوائر العنف؛ الأمر الذي يشكل تحدياً خطيراً على مستقبل التعايش والسلم الاجتماعي في بلدان المنطقة.
يلفت السيد أبو النصر إلى الحقيقة الديموغرافية المؤكدة، بالقول إنه إذا أخذنا في الاعتبار أن المجتمعات العربية أغلبها مجتمعات شبابية، بمعنى أن الشباب يشكلون النسبة الأكبر في التركيبة السكانية، فإن الأمر يتطلب بذل مزيد من الجهود للوصول إلى هذه الفئات، لإدماجهم في مسارات ثقافية وفكرية تعزز المفاهيم الإيجابية حول قيم المواطنة وقبول الاختلاف.

تحت سماء بيروت، وبين أهاليها الذين يشكلون لوحة فسيفساء نادرة؛ حيث النسيج متعدد الألوان والانتماء لأبنائه، ما يتيح تقديم نموذج للعيش بين الأديان والمذاهب المتعددة (18 طائفة إسلامية ومسيحية)، كان قد اجتمع نحو خمسين من الشباب العربي الواعد والناشط في مجال الحوار، من لبنان وفلسطين والأردن وسوريا ومصر والجزائر، في منتدى يسعى لأن يجعل منهم سفراء فوق العادة لثقافة اللقاء، والعمل على بناء الجسور المجتمعية العربية، ومن ثم إزالة جدران الانسداد التاريخي الذي نعيشه، في عقلية ماضوية لا ترى إشراقات المستقبل الواحد.

ما يميز عمل «كايسيد»، وفي هذا المؤتمر تحديداً، أنه يركز على دور الشباب العربي العامل والفاعل في المؤسسات التعليمية الدينية المتنوعة في عالمنا العربي، وتعزيز قدرات القيادات الدينية المستقبلية على نشر ثقافة التفاهم المتبادل في مجتمعاتهم، وتعزز قيم احترام التعددية، ودعم قيم المواطنة، وجميعها منطلقات إيجابية خلاقة تبشر بأجيال عربية قابضة على الحلم بأسنانها، وقصدها وطن واحد بالأعمال الجادة والمفصلية، لا بالشعارات الجوفاء والإعلانات التلفزيونية.

المكاشفة والمصارحة - إن جاز لنا استعارة فلسفة ميخائيل غورباتشوف - التي شهدتها أروقة حوار منتدى بيروت، كانت خير دليل على أن «كايسيد» يقدم عملاً نوعياً جليلاً لصالح العالم العربي، وبخاصة حين تكون الطروحات من عينة: «على ماذا نتحاور؟ وعلى ماذا لا نتحاور؟»، الحوار أداة لحل النزاعات، والحوار من منظور مسيحي وإسلامي، عطفاً على مفهوم ومبادئ الحوار، مع الأخذ في الاعتبار أهمية دور التواصل الفعال والحوار والتواصل اللاعنفي.

يستهدف منتدى بيروت المرتبط ببرامج «كايسيد» المختلفة، تمكين الشباب في مصر والأردن وفلسطين ولبنان والجزائر بالمعارف اللازمة للقيام بدور فعال في نشر قيم السلام والعدل، والوئام والمودة، وكيفية مجابهة العقليات المتحجرة التي توقف بها الزمن عند الآخر بوصفه الخصم والعدو، وحتى من دون أدنى مقدرة على مساءلة الأيقونات حول هذا الآخر، أيقونات العداوات القبلية التي باتت من أفعال الجاهلية.

شباب منتدى بيروت «بشرة خير»، وقبس من ضوء، سيما عبر الطرح الذي تبنوه بتشكيل منصة حوار شبابية، من أجل استفادة من تكنولوجيا المعلومات ووسائل الاتصال الاجتماعي، وحتى لا تضحى هذه وتلك فضاء سيبرانياً مباحاً للإرهاب والإرهابيين، من خلاله يحولون جنبات العالم العربي من الازدهار والنماء إلى الانحدار والفناء؛ بل جسور قيضتها اكتشافات العصر لخدمة الإنسانية.

أحلى الكلام... أنت أخي وأنا أحبك.

(الشرق الأوسط)