موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ٢٠ ديسمبر / كانون الأول ٢٠١٨
المطران جورج أبو خازن يوجه رسالة الميلاد 2018: الميلاد ولادة النظر

حلب - أبونا :

في القراءات التي تقترحها كنيستنا اللاتينيّة في عيد الميلاد آية رائعة مستوحاة من سفر الخروج تقول: "في هذا المساء تعلمون أنّ مخلصكم آتٍ. الربّ هنا. وفي الغد ترونه" (خر 16: 6-7). وفي كلّ عيد ميلاد نتساءل هل نرى شيئًا؟ أيّ مكان يسمح لنا الله فيه أن نجده؟ أين نبحث عنه؟

لقد مضى على إعلان دنوّه منّا عشرون قرنًا، وقيل لنا إنّ الكلمة هي على شفاهنـا وفي قلوبنـا (تث 30: 14). لمَ يصعب علينا تقفّي أثره؟ لقد فتشنا العالم حولنا فلم نلحظه، أو قلّما لحظناه. أين ذهب؟ الأمور تسير من دونه على ما يبدو سواء في حياتنا الخاصّة أو العامّة. فمنذ قرن تقريبًا، أعلن نيتشِه موت الله. واليوم، يعلن المؤمن متردّدًا، ومع ذلك مقتنعًا، غياب الله. أين إلهكَ؟ أين إلهي؟ هل اختفى من عالمنا؟ هل رحل من دون أن يقول وداعًا؟

إذا غاب الله عن عالمنا، غابت حرارة الإيمان، وصرنا في أوج موجة البرد. حضارتنا بردت. خشية الله في قلوبنا فترت، مشاركتنا الخبز مع الضعيف تجلّدت. قبولنا للآخر المختلف تجمّد. لم يعد هناك إلاّ قعقعة صمّاء للسلاح، وجعجعة لغة العنف، أو رنين مالٍ يثقب طبلة الأذن، أو صمت الخشية والتوجّس. وكما تفعل الطيور في فصل الشتاء، نشدّ رحالنا لنذهب إلى بلدٍ آخر بحثًا عن الدفء.

وبانتظار سماع دقّة ختم تأشيرة السفر، نتقوقع حول آخر شعلات اللهب، ونعزّي النفس بحرارة الجمر. أين الشمس؟ أين الله؟ بدونه كلّ نار ليست إلاّ نار قشّ. سرعان ما تنطفئ بعد اشتعالها، فلا يتدفّأ الأولاد بها ولا يستنيرون.

ما الذي أصاب عيوننا؟ لقد فقدنا القدرة على رؤية العمق. ونظرتنا تشبه نظرة آلة التصوير. إنّها ساكنة، زجاجيّة، وخالية من المشاعر. نظرة جامدة. لم تعد الأشياء كما كانت عليه من قبل. لقد زال سحرها وضاع اسمها في ترهات التحليل والمنطق. فأصبحت الشجرة قطعة خشب، والغزال حيوانًا فقاريًّا، والسؤال الوحيد الذي أطرحه على نفسي حين أراهما هو سؤال الفائدة والمردود. أيّ نوعٍ من الأثاث يمكنني أن أصنعه، وأيّ طبق من اللحم أستطيع طبخه. لم أعد أتغنى بخصال الشجر ولا بجمال الغزال. ولا بروعة الخليقة التي تعكس جمال خالقها. كلّ الخليقة تحوّلت إلى أشياء موجودة لأملكها، مخلوقة لتتغيّر وتتحوّل وتُستعمل أو حتّى لتُبتر أو تُقتَل. لم تعد العين ترى الخالق من خلال خليقته.

ما الّذي أصاب عينيكَ يا آدم؟ نظراتُكَ مملوءة شهوة ولا تعكس إلاّ جماحك لإخضاع الأشياء لسلطانك. هل فقدتَ قدرتكَ على التأمل؟

ما الّذي أصاب عينيكَ يا آدم؟ لقد انطفأ بريق عينيّ الرجل والمرأة. كلّ واحد منهما لا يرى من الآخر إلاّ الجسد. والأولاد دُمى للكبار. إنّهم لا يرون النور إلاّ حين يلائمنا ذلك.

ما الّذي أصاب عينيكَ يا آدم؟ إنّك لا ترى إلاّ أحد جوانب الأمور. إنّك لا تلحظ إلاّ الجسد. أمّا النفس فتخفى عليك. كلّ شيء أصبح باردًا. بدون عمق.

ما الّذي فعلتَه بعينكَ يا آدم؟ تتساءل أين هو الله، والله يسألك أين أنت؟

بعد أن حطّت الحرب بسوريا أوزارها في مناطق كثيرة، صرنا نفتّش عن دواء لجروحنا وذاكرتنا. وأوّل دواءٍ نجده يكون مثل طريقتنا في التفتيش: حماسيّ ومصطنع. إنّه مهدّئ يمكّننا من الاستمرار في العيش وليس دواءً حقيقيًا.

التكنولوجيا هي أوّل دواءٍ مصطنَع نتناوله. والألعاب التي تنتجها مهدئات تحاول ترميم الطبيعة اصطناعيًا بعد أن خرّبتها. صرنا نستسلم لها حتّى ونحن في حضرة الله. لا نتحمّل الصمت والهدوء، فندكّ في آذانا سمّاعاتٍ تبثّ الصخب إلى أعماق كياننا.

وهل حال الحياة الاجتماعيّة أفضل؟ لقد أصبح العيد كارثة للناس بسبب قلّة الإمكانات الماديّة. والعطالة عن العمل شبح يقضّ مضاجع العمال. والأطفال ينشأون على الاستهلاك، وعلى إرضاء الرغبات حالًا. والأهل يجهلون أنّ تعليم الأطفال الصبر والانتظار وضبط الرغبات أمور لابدّ منها للوصول إلى سنّ البلوغ. فالإرضاء المباشر للرغبات لا يجعل الشخص إنسانًا، بل يجمّده في مرحلة الطفولة.

وعلى الرغم من كلّ ما قيل، ليس الله بعيدًا. فالأشخاص الّذين يفتّشون عنه أكثر ممّا نتصوّره. إنّهم يعيشون بيننا ويا ليتنا نراهم.ففي حين يبدو إلها الجنس والمال يغزوان كلّ شيء ويتحكّمان به، يعيش رجال ونساء في جوّ حبّ من نوع جديد. حبّ طازج يبذل ذاته ولا يريد أن يتملّك. هناك أزواج وزوجات يحترمون الآخر ويسعون يومًا بعد يوم إلى معرفته أكثر، وإلى ملاحظة نموّه. إنّهم لا يحبسونه في قوالب أو تصنيفات، ويؤمنون بعمل الله الخلاّق فيه.

وفي العالم أيضًا شبّانٌ وشابّاتٌ يتمتّعون بنفوس صافية نقيّة شفّافة. وبما أنّ عيونهم سليمة، أجسادهم كلّها في النور (متى 6: 22). إنهم كالشرر بين القش. وعلى الرغم من حثّ وسائل الإعلام والمجتمع على الاستهلاك. يرغبون القناعة والحياة البسيطة والطبيعة واحترام انسجام الأزمنة والفصول. وآخرون يلتزمون في خطّ السلام ومحاربة الفقر والجوع. وفي آخر الأمر، شباب كثيرون يدفعون مالاً ليقضوا أوقات خلوةٍ روحيّة مع الربّ. إنّ هؤلاء يبحثون عن الله بنفوس جائعة تتوق إلى قليل من الخبز السماوي ليسدّوا به رمقهم. إنّهم يتسوّلون غذاء القلب والروح لا غذاء الجسد. ينجذبون إلى صلاة التسبيح، ويبحثون عن حياة بسيطة وليترجيّة خشوعيّة زاهدة.

لقد اكتشف هؤلاء أنَّ الحكمة البشريَّة والشفاء الإلهي يمكن نيلهما من إيقاع حياة فيه تناوب بين الصلاة والعمل. بين الاحتفال والجلوس في سكينةٍ أمام أيقونةٍ تضيئها الشموع. وفجأةً، تزهر الصحراء وتخضرّ. إنّه فعل إيمانٍ ورجاء بأن الله يشعل ناره عندما يكون الطقس باردًا. إنّه الإيمان والرجاء بأنّ الله يحافظ على شعلة صغيرة في كلّ قلب تعصف به رياح الشتاء. إنّه إيمان قلبٍ عابدٍ يريد أن يطلق نداءه، أن يصلّي صلاته، أن يقول كلمته الناريّة، أن يجعل جنون الصليب مرجعه في وسط حساباتنا وتخطيطنا. إنّه رجاء مؤمنٍ يريد أن تجد كلمة الله طريقها من القلب إلى الشفتين. لأنّ الكلمة، حين تدخل القلب، لا تستطيع أن تظلّ جامدة فيه، وعبثًا نحاول كبتها. أجل، لقد آن الأوان كي نرى كلّ هذه الأمور. آن الأوان لنتأمّله بعيوننا الداخليّة.

التأمّل الحقيقيّ، التأمّل الأصيل، يحثّنا على التشمير عن سواعدنا للسعي إلى السلام. فبعد التأمّل لا نعمل جاهدين وكأنّ الله غير موجود؛ بل نوقن بأنّ المستقبل لا يُنتَج من الحاضر، كما تُنتَج السلعة من الآلة. إنّنا لا ننتجه، بل ينبت كما ينبت الساق من البذرة. ويتفتّح كما تتفتّح الوردة من البرعم. إنّه يولد مثل كائنٍ حي. وككلّ ولادة، هناك شيء جديد. شيء مجّانيّ يأتي من يد الله.

في عيد الميلاد هذا، لازلتُ أسمع أصوات مسيحيّين بالاسم، مسيحيّون بدون إيمانٍ ولا رجاء. أسمعهم يقولون: "أين المستقبل؟ انظر إلى مَن حولك! كيف تؤمن بالسلام مع عقليّات كهذه؟ كيف تؤمن بالعدل في مجتمع كهذا؟ كيف تؤمن بمستقبل زاهر مع أوضاع كهذه؟" ونستسلم للأقدار. كيف نبني مستقبلًا في وسط الخرائب؟ كيف نبني المستقبل بنفسيّةٍ يائسة؟

إلى هؤلاء أقول: إرفعوا عيونكم وانظروا العلامات التي يعطينا الربّ إيّاها. لا تجعلوا رؤيتكم محصورة في بلدكم، أو في مدينتكم، أو حيّكم، أو أسرتكم. أنظروا آلاف الشبّان والشابّات المتطوّعين في منظمات خيريّة من أجل خدمة الإنسان أينما كان. أنظروا إشعاع الكنيسة وحضورها في أماكن كان من المستحيل أن تطأها قدمها. أنظروا إشعاع البابا واحترام العالم له، انظروا عمل الكثيرين من أجل البيئة والعدالة والسلام والمصالحة. إن علامات الأزمنة حاضرة هنا، فلا ترفضوا رؤيتها.

أبنائي الأحبّاء، إنّ يسوع لا يخاطب الأذن وحدها بل العين أيضًا. إنّه يخاطب نظرة الطفل فينا من خلال الإنجيل والصور والأيقونات والأسرار. فليكن الميلاد غذاءً للعين، الداخليّة كما الخارجيّة، ولنبحث أين يولد الطفل الإلهيّ في عالمنا اليوم، كي نذهب ونسجد له، حينئذٍ يغمر قلوبنا فرح عظيم.

وكل عام وأنتم بخير.