موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الأربعاء، ٢١ أغسطس / آب ٢٠١٩
الحوار الديني بين أزمة ذاتية وأزمة إعلامية

د. محمد عبد الفضيل :

ستتلخص مقالتي في عدد من الرسائل أو النقاط المختصرة التي تعرض سريعًا لأزمة الحوار الديني والتناول الإعلامي له:

1) بعد سقوط الدولة العثمانية ومع نشأة القوميات الحديثة في عشرينات القرن الماضي اتجه الحوار الديني الإسلامي-المسيحي من طرح المسائل العقدية على طاولة الحوار إلى موضوعات دينية اجتماعية تشريعية تمثلت في مسائل المواطنة وبناء الكنائس وترميمها وتشريعات الزواج وقانون دور العبادة الموحد والمشاركة السياسية على سبيل المثال، وهذا التغيير في مواضيع الحوار كان يراه البعض إنجازًا بعد زمن من السجال العقدي الذي لم يخلف لنا إلا نصوصًا أدبية، البعض الآخر يسمون هذا الإنجاز حتمية تاريخية. المهم هو أن الحوار الديني نقل من المسائل الميتاتاريخية إلى واقع الإنسان وتاريخه، والآن – في وقت ما بعد المعاصرة Postmodern – تداخلت قضايا الحوار البين ديني interreligious وأهدافه بشكل لافت للنظر بعد تفشي ظواهر التطرف والعنف والكراهية والعزلة، التي أدت بالحوار الديني إلى العودة للحديث عن أهمية الحوار والتقارب الديني، هذه العودة للتأكيد على أهمية الحوار يسميه البعض «فشلًا».

2) هناك كثير من التفاهمات الإيجابية على المستوى المؤسسي الرسمي الديني، تفاهمات دفعت إليها المؤسسات الدينية دفعًا بعد نتشار خطابات الكراهية والتطرف وبعد تراجع الخطاب الديني المنفتح عن تأدية دوره لعقود عديدة، وفي ظل هذا التفاهمات التي اصطبغت بها كثير من جلسات الحوار بين المسلمين والمسيحيين في الشرق اختلفت منطلقات بين خطاب إسلامي يغلب عليه طابع الهيمنة بعض الشيء، وينادي أصحابه دائمًا بالانطلاق دائمًا وأبدًا من الثوابت الدينية الإسلامية حتى تلك المختلف في تفسير نصوصها التأسيسية، وبين خطاب مسيحي يريد أن ينطلق من مبادئ حقوقية دولية عامة تستلهم نفسها من الحضارة الغربية، وبين الخطابين أصوات قليلة تذهب على المستوى الإسلامي إلى أبعد نقطة تسامحية في الحوار يغلب عليها الطابع القيمي الإنساني، أصواتٌ تقرأ الدين على أنه جاء يخدم الإنسانية وليس العكس، وأصوات مسيحية تستوعب جيدًا خصوصية الثقافة العربية والنسيج المجتمعي العربي. ومع إيجابية ظهور هذا الخطاب الديني إلا أنه – وبكل أسف – مازال بعيدًا عن التأثير على الوعي العام والعقل الجمعي العربي الذي أطعمناه وأسقيناه طوال قرون بما أنبت فيه عقلًا لا يستوعب الآن نداءاتنا إلا بعناء شديد، وبخاصة بعد أن قفزت علينا أصوات انتهازية صورت للشعوب بأن هناك غول قادم من الدين، واجهته على الجانب المقابل بكل أسف صيحات متدينة تحذر من الغول القادم من الغرب، وكانت النتيجة أن فقد جيل كامل الشعور بأي هوية يناضل من أجل الدفاع عنها أو يكافح ويعمل انطلاقًا من الانتماء إليها، الأمر الذي ألقى على كاهل الحوار الديني عبئًا إضافيًا يتمثل في إيقاظ الشعور بالهوية الدينية السليمة والتأكيد على أنها لا تتعارض بأي حال مع الهوية الوطنية.

3) إعلاميًا من الصعب أنا أتناول هنا التعاطي الأعلامي للحوار الديني وموضعاته وأهدافه ونتائجه على المستوى الإعلامي الرمسي للمؤسسات الدينية، وعلى المستوى الإعلامي العام سواء كان حكوميًا أو خاصًا، أو على مستوى مواقع التواصل الاجتماعي والمنتديات الشبابية. على أي حالٍ أؤكد وبشكل عام أن الحوار الديني شهد على هذه الأصعدة نجاحاتٍ وإخفاقاتٍ.

صحيفة الشعب التي كانت تصدر عن حزب العمل في مصر احتضنت في آوخر ثمانينات القرن الماضي وتحديدًا عام 1987 حالة حوارية فريدة بين مجموعة من المفكرين المسلمين والمسيحيين، أخذت طابع السؤال والجواب أو الطرح والرد في مسائل تطبيق الشريعة والمواطنة والمشاركة السياسية، الجدير بالذكر هنا أمران: أولهما أن الحوار بين الإسلام والمسيحية أخذ صورة المقالة المكتوبة في صحيفة ورقية ولم يجتمع المتحاورون على طاولة للحوار وهو نموذج إعلامي فريد استدعى دار الشروق وهي من أشهر دور النشر في مصر إلى جمع هذه المقالات وإعادة نشرها لتكون الأراء ووجهات النظر معلنة ومحفوظة لأجيال الباحثين والمطلعين على تاريخ الحوار الإسلامي المسيحي، ثانيهما أن الإعلامي ا. عادل حسين، هو الذي كان يرسل مقالات الفريقين إلى بعضهما البعض ليقوموا بالرد، حتى أنه كتب في مقدمة إحد الإسهامات «حزب العمل واضح وحازم في قضية وحدة الأمة المصرية وصفوف حزبنا مفتوحة أما إخواننا الأقباط لكي نعمل معًا من أجل نهضة الوطن»، الأمر الذي يعني أن الإعلام ساهم مساهمة إيجابية في نقل دفة الحوار إلا قضايا تهم الوطن والمواطن.

4) لسنوات أنهى الأزهر الشريف والكنيسة الكاثوليكية قطيعة الحوارية دامت لسنوات وبدأ مركز الحوار بالأزهر وحاضرة الفاتيكان في استعادة تنظيم الحلقات الحوارية التي لم تشهد للأسف الاهتمام الإعلامي المطلوب حتى الترويج الإعلامي من المؤسستين لم يكن مؤثرًا، بعد عدد من جلسات الحوار تمخضت فكرة الإعلان عن وثيقة إسلامية - مسيحية أو بشكل دقيق وثيقة أزهرية-كاثوليكية اتفق الجانبان على تسميتها بـ «وثيقة الأخوة الإنسانية»، ومع ما جاء في الوثيقة من موضوعات لم يكن يُعنى بها الحوار الديني فيما سبق، مثل قضايا اللجوء والفقر والتعددية والتطرف، ومع ما جاء في الوثيقة من إطلاق لمفهوم حرية الإنسان المطلقة، إلا أن التناول الإعلامي لها لم يكن أيضًا على مستوى الحدث، بل إن بعض الدول لوحظ فيها تعتيم إعلامي أصفه بـ «شبه المتعمد»، لا أريد أن أحمل الإعلام العام مسؤولية عدم الاهتمام بنشر الوثيقة وخلفيات إصدارها ولكني أود التأكيد على أن الآلة الإعلامية الرسمية للمؤسسات الدينية ما زالت ضعيفة، خاصة بعد أن أهملت آلياتٍ وآلاتٍ إعلامية مؤثرة أو ربما كانت الأكثر تأثيرًا على العقل الجمعي والوعي المجتمعي مثل مواقع السوشيال ميديا، التي عادت إليها المؤسسات الدينية مؤخرًا بلا خبرة كافية وبلا خبراء، فكانت وما تزال المساهمة الإعلامية فيها ضعيفةً لا تقوى حتى الآن على مواجهة الخطابات المتطرفة مواجهة إعلامية مهينة ورداعة.

فانتشرت منتديات شبابية حوارية على صفحات الإنترنت وعلى مواقع التواصل الاجتماعي وفي مقدمتها «فيسبوك» تعجّ بالسفاهات والجهالات والاتهامات الدينية المتبادلة، يرتادها أعدادٌ كبيرة من شباب المسلمين والمسيحيين متأثرين بهذا الخطاب المصبوغ بصبغة الكراهية.

5) وأخيرًا، الدور الدرامي الغائب عن الساحة الإعلامية، والذي كان يشهد في الماضي حالة أفضل كثيرًا، عرض فيها إعمالًا أثرت على المجتمع تأثيرًا إيجابيًا لم تقم به كثيرٌ من الأعمال المكتوبة، ولكن في هذا السبات العميق يظهر فيلم «القديس والسلطان» The Sultan and The Saint مقدمًا لنا بصيصًا من الأمل لعودة الدراما الدينية الحوارية حتى لو كانت غير عربية، الفيلم الذى تبلغ مدته ساعةً كاملةً تناول حقبةً زمنيةً مهمةً للغاية وهى فترة الحرب الصليبية الخامسة، التي شهدت واقعة شهيرة حدثت بين السلطان الكامل الأيوبي والقديس «فرانسيس الأسيزي«، حيث التقى السلطان المعروف بسماحة الدين الإسلامى مع القديس « فرانسيس الأسيزى « المعروف أيضا بحبه للسلام وكرهه للتحيز والعنصرية التى يمارسها البعض، وتم هذا اللقاء داخل معسكر جيش السلطان أثناء حصار الصليبيين لمدينة دمياط فى العام 1219 ميلادية، ودارت بين الاثنين حوارات عن عظمة وتسامح الأديان التى تدعو للمواطنة وضرورة احترام الآخر والتعايش السلمى فيما بين أبناء الأديان.

الفيلم من انتاج شركة unity productions foundation UPF، وكان مركز كايسيد قد قام بعرض الفيلم في القاهرة بالتعاون مع دير السيدة العذراء للاباء الفرنسيسكان بالمقطم.

وفي النهاية أود أن أحمد جميع الاجتهادات الإيجابية التي تقوم بها مؤسسات الحوار ومؤسسات الإعلام والمصحوبة بنوايا حسنة تنتهي بنتائج قيمة، وأدعو الله ألا تظل وقتًا طويلًا بعيدة عن حوار الحياة وأن تؤثر تأثيرًا ملحوظًا على المساحة المعرفية للشعوب العربية.

* عضو مركز الحوار، استاذ مقارنة الأديان بالأزهر

(الدستور الأردنية)