موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الأربعاء، ١٠ مايو / أيار ٢٠١٧
الجوع للحب كالجوع للخبز

عبد الجبار الرفاعي :

الخوف من الوحدة، والحاجة العميقة للاحتماء بالآخر، تقود الكائن البشري للحب. يعيش القلب بالحب كما تعيش السمكة بالماء. الحب من أبرز الحالات البشرية التي أشبعها المتصوفة والعرفاء في كل الأديان بحثًا وتحليلًا، وهكذا أنشدها وتغنى بها الشعراء في قصائدهم وغزلياتهم، وعالجها الفلاسفة، وعلماء النفس، والأخلاق، وأخيرًا قدم له تفسيرًا بايولوجيًّا علماء الأعصاب والدماغ.

الحب الحقيقي حالة وجودية للذات، بمعنى أنه يعني حدوث طور وجودي، تتحقق به مرتبة أسمى للكينونة البشرية. لقد تعددت طرائق فهم الحب وتفسيره، فكل فن يفسّره من منظور يتطابق مع الوجه الذي يتجلى فيه، وهو لا يتجلى على الدوام إلّا جميلًا ملهمًا. وكأن الحب مرآة لا يرتسم فيها، إلّا ما هو رؤيوي مضيء.

للحب أنماط متنوعة في حياة الإنسان، فتارة يكون حبًّا شهوانيًّا حسيًّا عاطفيًّا، يغرق في الجسد. وهو المتفشي في علاقات الكثير من المراهقين الشباب والفتيات. وهو نمط حب يشوبه قلق واضطراب، ومسكون بالحذر والفقدان واللاأمان، لذلك لا يصنفه جماعة من الباحثين حباً، ولا تطلق عليه تسمية الحب. وغالبًا ما ينطفئ هذا النمط لحظة الملل من تذوق الجسد، والإفراط في تعاطي الجنس، والمكوث في سجن الجسد، والفشل في عبوره إلى رحاب المعنى. يكتب إيريك فروم في توصيف ذلك: "يكتسب مصدر الإشباع الجنسي وظيفة تجعله لا يختلف كثيرًا عن إدمان الكحول والمخدرات. إنه يصبح محاولة يائسة لتلافي القلق المتولّد من العزلة، ويؤدي بالنتيجة إلى تضخم أكبر لمشاعر العزلة، لأن العمل الجنسي من غير حب، لا يمكنه أبدًا أن يمد جسرًا فوق هاوية تفصل كائنين إنسانيين سوى للحظة قصيرة".

النمط الثاني هو حب عاطفي جسدي، لا يقف عند الجسد، بل يعبره للمعني الإنساني الأخلاقي، وهو ما نجده في بعض حالات العشق بين الرجال والنساء، وعادة ما يثمر زواجًا ناجحًا، لا تستنزفه الأيام سريعًا.

وهناك نمط شائع للحب، هو حب عاطفي أخلاقي إنساني، كحب الأم والأب للأبناء، وحب الأبناء للآباء. وهذا النوع من الحب هو الكنز الأغنى لبناء العائلة وتغذية نسيجها، وتكريس علاقات القرابة، ودعم العلاقات الاجتماعية المختلفة.

وأسمى مراتب الحب حبُّ الله، وهو نمط حب روحي، يتعطش له كل كائن بشري، وتستقي منه أنماط الحب الأخرى. فمن يحب الله، يحب خلق الله بلا شروط. لكن هذا الحب، لا يظفر بمراتبه العليا، إلاّ الأشخاص الذين يتوافرون على استعداد روحي خاص، وقادرون على إطفاء نار الكراهية في أنفسهم، والتغلب على بواعث الشر المختبئة في ذواتهم.

الجوع للحب كالجوع للخبز. الحب عصارة الجوهر الروحاني الإنساني للأديان. لا يمكن أن تنجز الأديان وعودها، وتتحول إلى طاقة ملهمة للخير والسلام والعدل والجمال، من دون اكتشاف ذلك الجوهر الروحاني الإنساني المشترك، المختبئ وراء ركام الصراعات اللاهوتية، والتفسيرات المغلقة للنصوص الدينية.

الحب جوهر الإيمان. خلق الله البشر ليتجلى من خلالهم، لا مِرآة يتجلى بها الله، وترتسم فيها صورته كالإنسان. عبر الحب الإلهي يرتوي ظمأ الإنسان الأنطولوجي للمقدس، وحين يرتوي الإنسان أنطولوجيًّا، يصبح قلبه ينبوعًا للحب، أي يكون الحب هو، وهو الحب. يصير الحب في حياته: مرآة كل مرآة، مادة كل مادة، صورة كل صورة، لون كل لون، موضوع كل موضوع. ويكون "الدين هو الحب، والحب هو الدين"، كما هو مروي عن الإمام محمد الباقر. الحب هو مَنْ يوجّه بوصلة الدين، وليس الدين هو مَنْ يوجّه بوصلة الحب، فحيثما يتحقق الحب يتحقق الدين.

لا علة للحب إلّا الحب، لا ينتج الحب إلّا الحب. الكل يريد أن يحبه الكل، ويكون محبوبًا للكل، لكن الكائن البشري لا يتنبه إلى أنه لن يصبح محبوبًا للكل، ما لم يكن محبًّا للكل. لن يصبح الحب أصيلًا إلاّ أن يصبح المرء مُحبًّا، أي إن هناك علاقة جدلية متبادلة بين حب الآخر لك، وحبك له. فليس هناك شيء يمنح مجانًا في الأرض، لن يحبك الآخرون مالم تحبهم، ولن يهبك الآخرون الحب الذي هو أثمن ممتلكاتهم مالم تهبهم أثمن ممتلكاتك.

ومادام الحب أثمن ممتلكات الإنسان وأغلاها، فإن امتلاكه يتطلب معاناة شاقة وجهودًا مضنية، لأن الكائن البشري من أعقد الكائنات في الأرض، وأغربها في تناقضاته، وتقلب حالاته. الحب حالة لا تتكرس إلاّ بالتربية والتعليم، والتدريب المتواصل على تجفيف كل منابع الشر والتعصب والكراهية المترسبة في النفس البشرية، والعمل الدؤوب على اكتشاف منابع إلهام الحب وتكريسه.

الحب هو الحبل السري لما يعيشه الإنسان من حالات الرضا والثقة والانجاز والسعادة، وهو الملهم لكل ما هو جميل في الحياة، ولكل ما تغتني وتتكامل وتسمو به كينونة الكائن البشري.

(نقلا عن موقع تعددية)