موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
العالم العربي
نشر الجمعة، ٨ فبراير / شباط ٢٠١٩
الأمير والبابا على أرض العروبة: تقدّم يأبى الجمود، محبة بلا حدود، عبادة بلا قيود!

الأب د. بيتر مدروس :

ما انتهت زيارة الحبر الأعظم إلى الإمارات بعودة قداسته إلى روما، وتبدأ الآن ثمارها وقد أذهلت العالم. وشهد القاصي والدّاني بين الشّخصيّتين ووفودهما والجموع وتقواها ومودّتها وانسجامها مشهدًا هو للإنسانيّة كلّها عبرة تتلخّص بالكلمات المؤثّرة الّتي قيلت في مسيحيّي القدس الأوّلين الرّسوليّين: "انظروا كم يحبّ بعضهم بعضًا!"، لا باختفاء الفوارق بل بتآلفها (والألف أوّل حرف من الأبجديّة أي من التّواصل الإنسانيّ).

هل من سلبيّات وعلامات سؤال؟

لم يخل النّقد في شأن هذا اللقاء التاريخي والتحفظ والتساؤل. وأتت ملحوظات من أناس توجسوا خيفة أن تكون خطوة ولي العهد الإماراتي دعاية لبلاده واسترضاء لسياستها باستغلال قداسة البابا، أكبر زعيم ديني في العالم والأوفر هيبة ونفوذًا، "بتجيير" زيارة روحانية إنسانية تقرّب بين ديانتين كبيرتين وأتباعهما إلى مصالح سياسية إعلامية. وخشي آخرون أن تعني الزيارة البابوية تأييدًا من البابا والكنيسة الكاثوليكية لبعض سياسات الإمارات حول حقوق الإنسان والحرب في اليمن وغير هذه القضايا.

شجاعة الأمير وجرأة الحبر الأعظم

مهما كانت نيّة ولي العهد الإماراتي، فما من مؤيّد ولا من معارض، ما من صديق ولا من عدوّ يستطيع أن ينكر شجاعة سموّه ورباطة جأشه وتحمّله المخاطر في دعوة هي الأولى في تاريخ العروبة والفاتيكان، ممّا يجلب على سموّه غضب جماعات كثيرة تجد أنّ دعوته مرفوضة إسلاميًا، مع كلّ العواقب. وبصراحة، إذا كان وليّ العهد حقّق فوزًا إعلاميًّا وسياسيًّا لدولته – الّتي لا تتعدّى بعض الملايين من مواطنين ووافدين، فهل فات سموّه أنّ النّجاح الرّوحانيّ المعنويّ لدى قداسة البابا يقاس بمئات الملايين؟ أما كان أوفر للأمير وأسهل وأكثر فائدة أن يتقرّب من "دول عظمى"مثل الولايات المتّحدة (كما فعلت دولة مجاورة) أو روسيا أو الصّين أو الاتّحاد الأوروبيّ؟

حكمة البابا وحنكته ونزاهته وعزّة النّفس

الحبر الأعظم الرّومانيّ خليفة القدّيس بطرس أوّل الرّسل وراعيهم وهو في نفس الوقت، منذ العصور الوسطى وبالذّات منذ القرن التّاسع عشر الميلاديّ، مكرهًا، رئيس دولة مستقلّة عن إيطاليا (وخلق كثير يخلط بين الدّولتين إلى إيامنا) رسالته الأولى التي تشغل 90 بالمئة من خدمته هي روحانية أخلاقية راعوية تعليمية خيرية إدارية للعالم الكاثوليكي مترامي الأطراف. لذا، كرئيس دولة يزورها قداسته، لا يحقّ له التدخّل في شؤونها الداخلية. ولكن، كأول زعيم ديني في العالم، واجبه –من غير تطفّل- أن يعلن الحقيقة الدينية ويدعو الدول والأفراد إلى الخلق القويم، "في وقته وفي غير وقته... بكل أناة وتعليم"، سواء رضي عنه القوم أو لم يرضوا، لأنه إذا "توخى رضى البشر، لما كان خادمًا للمسيح" (غلاطية 1: 10).

مواقف بابوية جريئة في قضايا عديدة حسّاسة

في قمة الدبلوماسية ونحافة التعبير وأديب الكلام وذروة الاحترام واللياقة، في الصراحة والمهارة في إيصال الرسالة بكل "وداعة ووقار"، كما أوصى الحبر الروماني الأول القديس بطرس، ما توانى البابا فرنسيس في إطلاق مبادىء دينية وأخلاقية واجتماعية وسياسية (من ناحية الأخلاق وحقوق الإنسان). "ولا يستحيي قداسته من الإنجيل" (رومية 1: 16)، مع احترامه للأديان الأخرى ولا سيّما الموحّدة. وهذه أحداث يجدر بالمحلّل النّزيه ألاّ يغفلها: قبل مغادرة البابا لروما متوجّهًا إلى الإمارات، دعا من أجل اليمن. وهذه رسالة حكيمة مبطّنة تستحلف الضّمائر لإنهاء حرب شقيّة يتناحر فيها الأشقّاء، وقسم من الرسالة البابوية موجّه بشكل غير مباشر إلى الإمارات، بلا خجل ولا وجل.

وعلى أرض شبه الجزيرة، دعا قداسته، بلا لفّ ولا دوران، إلى المساواة في الحقوق بين المواطنين، وقداسته يعلم أنّ هنالك تجاوزات في معظم دول العالم، ولاسيّما في الشّرق الأوسط وإفريقيا وآسية، وأنّ فرقًا شبه "طبيعيّ" في المعاملة موجود أحيانًا بين مواطن ووافد، وربّما تمييز من حين إلى آخر على أساس جنسيّة أو عقيدة، بصرف النّظر عمّا يعلّمه الدّين وينصّ عليه القانون المكتوب على الورق...

أمّا إصرار البابا على "الحرّيّة الدّينيّة" خصوصًا في العالم الشّرق الأوسطيّ (كما فعل سينودس 2010) فإنّه جرأة ما بعدها جرأة، خصوصًا في خليج ما أعطى حرية العبادة الشاملة إلا قبل عقود محدودة أو سنين معدودة. ومسألة "حرية الضمير" تحدّ لكل الأديان والكنائس. ويبدو أن الكنيسة الكاثوليكية هي الوحيدة التي أعلنت قبولها لها، في المجمع الفاتيكاني الثاني في الستينات من القرن الماضي. وما زالت بعض الأوساط "المحافظة" تنتقد الكنيسة الكاثوليكية لذلك القرار، طبعًا لأنّ هذه المجموعات إمّا أساءت فهمه أو تريد ببساطة في الدين إكراهًا.

ومعروف حبّ البابا الحاليّ للفقراء وبسطاء القوم والمنبوذين وتمسّكه بالبساطة والفقر، بحيث أتى كلامه لصالحهم، وإن كان رقيقًا أديبًا، أتى حسامًا قاطعًا ولومًا ساطعًا -وإن كان رقيقًا غير مباشر- لميل عند الأثرياء بإهمال البائسين وتحقيرهم وهضم ما تبقّى لهم من حقوق وإغفال معاناتهم والافتخار بالممتلكات والتّباري في النّوافل ومظاهر الرّخاء والكماليّات.

ودخول البابا في سيّارة بسيطة وسط أفخم السيارات في قصر منيف عبرة صامتة بليغة. ولدى حبر أعظم من العالم الثالث، مشغوف باللاجئين والمهاجرين لأنه ابن إيطاليين هاجروا إلى الأرجنتين، يسود الوهم عند قداسته أن كل اللاجئين والمهاجرين إيطاليون معوزون هاجروا إلى بلاد الذهب والفضة، وما تغيّرت عليهم، لقرب الإيطالية من الإسبانية والبرتغالية وكثلكة أمريكا الوسطى والجنوبية لا عقيدة ولا ثقافة ولا لسان ولا حضارة. ولا يخفى على أحد عدم تألّق دول الخليج في استقبال مهاجرين أو لاجئين عرب وإن كانوا مسلمين. وواضحة مشكلة المذهب والصّراعات.

خاتمة: حرّيّة التّعبير في هذه المقالة أيضًا!

ما كلّفت الإمارات الدّاعي بالدّفاع عنها ولا برفع لوائها، ولا فعل الفاتيكان. فالفكر في الكنيسة الكاثوليكيّة حرّ، ولا وظيفة كنسيّة رسميّة دبلوماسيّة إعلاميّة للدّاعي بحيث له ملء الحرية في التفكير والتعبير. وإذ يشكر لهذا المنبر الأغرّ تكرّمه بإعطاء مساحة وإطار وموقع إعلاميّ، يحلو له أن يستشهد بكلمات الكتاب المقدّس حول صفوة "العرب" الذين كانوا في المدينة المقدّسة يوم العنصرة سنة 30 للحساب الميلاديّ مع برثيين وعيلاميين وسكّان ما بين النّهرين وإقريطيشيّين: "إنّنا نسمع الرّسل (أي الحواريّين) يحدّثون بمعجزات الله في ألسنتنا" (أعمال الرّسل 2: 10).