موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
الاراضي المقدسة
نشر الخميس، ٣١ مارس / آذار ٢٠١٦
أحد السجود للصليب المكرم

الأب بطرس جنحو :

الأحد الثالث من الصوم

أحد السجود للصليب المكرم

فصل شريف من بشارة القديس مرقس(8: 34–38 ، 9: 1)

قال الربُّ مَن اراد ان يتبعني فليكفُر بنفسهِ ويحمل صليبهُ ويتبعني لانَّ مَن اراد ان يخلّصَ نفسَهُ يُهلكها ومَن اهلك نفسهُ من اجلي ومن اجل الانجيل يخلّصها * فانَّهُ ماذا ينتفعُ الانسان لو ربحَ العاَلمَ كُـلَّهُ وخَسِرَ نفسَهُ * ام ماذا يُعطي الانسانُ فِداءً عن نفسهِ * لانَّ من يستحيي بي وبكلامي في هذا الجيلِ الفاسقِ الخاطىء يستحيي بهِ ابنُ البشر متى أتى في مجد أبيهِ مع الملائكةِ القديسين * وقال لهم الحقَّ اقول لكم إنَّ قومًا من القائمين ههنا لا يذوقون الموت حتَّى يَرَوْا ملكوتَ اللهِ قد اتى بقوّةٍ.

بسم الأب والأبن والروح القدس الإله الواحد أمين

أيها الأحباء، ما المقصود بأن نحمل الصليب؟ لقد كان الصليب أداةً لعقاب مذلل للناس المحتقَرين والأسرى المحرومين من الحقوق المدنيَّة. يحرم العالم المتكبِّر المعادي للمسيح تلاميذ المسيح من الحقوق الّتي ينتفع بها أبناء هذا الدَّهر. يقول الرَّبُّ لأتباعه: "إن كُنتم من العالم لأحبَّ العالمُ خاصَّتَهُ لكن بما أنَّكم لستم من العالم لكنِّي اخترتُكم من العالم لهذا العالم أبغضكم. سيطردونكم من المجامع حتَّى أنَّهُ يأتي زمنٌ عندما يظنُّ كلُّ واحدٍ يقتُلُكم أنَّهُ يُقدِّم خدمةً للهِ" (يوحنَّا 15: 19، 16: 2).

أن نحمل صليبنا معناه أن نحتمل بنُبْلٍ السُّخريةَ والتجديف الّتي يغمر بها العالم أتباع المسيح، وتلك الأحزان والاضطهادات الّتي بها يلاحقه هذا العالم المُحب للخطيئة. يقول القدِّيس بطرس الرَّسول: "لأَنَّ هذَا فَضْلٌ، إِنْ كَانَ أَحَدٌ مِنْ أَجْلِ ضَمِيرٍ نَحْوَ اللهِ، يَحْتَمِلُ أَحْزَانًا مُتَأَلِّمًا بِالظُّلْمِ" (1بطرس 2: 19-21). ولذلك دعيتم "من قبل الرَّبِّ الّذي سبق فخبَّرَ أحباءَهُ: يكون لكم في العالم حزنٌ ولكن تشجعوا فإنِّي قد غلبت العالم" (يوحنَّا 16: 33).

نحن أيضاً تلاميذ ربِّنا يسوع المسيح لأنَّنا مسيحيون. نحن أيضاً مُدعوون أمام حضرة الرَّبِّ في هذا الهيكل المقدَّس كي ننصت إلى تعليمه. نحن الآن واقفون أمام حضرة الرَّبِّ وأنظاره موجَّهةٌ إلينا. إنَّ نفوسنا معرَّاةٌ أمامه وأفكارَنا السرِّيَّة وشعورنا الباطني مكشوفةٌ لديهِ. إنَّهُ يرى جميع نوايانا، إنَّهُ يرى الأعمال الصالحة والخطايا الّتي عملناها منذ حداثتنا ويرى كلَّ حياتنا الماضيّة والمستقبليّة والعمل الّذي لم نفعله بعدُ هو مكتوبٌ في سِفرِهِ. إنَّهُ يعلم ساعة انتقالنا إلى الأبديَّة الّتي لا مِقياسَ لها ويُخبِرُنا من أجل خلاصِنا بوصيته الكليّة القداسة: مَن أراد أن يتبعني فليكفُر بنفسِهِ ويحمل صليبَهُ ويتبعني.

ما المقصود بالتكفير بنفسنا؟ أن نكفر بأنفسنا يعني أن نترك حياة الخطيئة. لقد صارت الخطيئة الّتي بواسطتها حدث سقوطنا وكأنَّها أمرٌ طبيعيٌّ بالنسبة لنا: أصبح التخلّي عن الخطيئة هو نوعاً ما التخلّي عن طبيعتنا والتخلّي عنها هو التخلّي عن ذاتنا.

يصدر الرَّبُّ ضدَّ هذا الموت الأبدي والّذي يقدِّم نفسَهُ على أنَّهُ حياةٌ: الّذي يريد أن يُخلِّصَ نفسَه منمِّياً فيها حياة السقوط أو الموت الأبدي سيخسرها ومن خسر نفسهُ من أجلي ومن أجل الإنجيل مميتاً رغبات الخطيئة في ذاته ومتخليّاً عن لذات الخطيئة فإنَّهُ سيربحها (مرقس 8: 35). يقول الرَّبُّ مُشيراً إلى كُلِّ العالم القائم أمامنا والمليء بالروائع والجمال: "وماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كُلَّهُ وخسر نفسَهُ؟" (مرقس 8: 36). ما الفائدة الّتي سيجنيها الإنسان لو كسب كُلَّ العالم لو امتلك ليس شيئاً قاصراً فحسب بل وحتَّى كُلَّ العالم المنظور؟ إنَّ هذا العالم المنظور هو نُزُلٌ آنيٌ للإنسان فحسب! ليس هناك أيَّة مادةٍ ولا أيَّ ميراثٍ يمكننا أن نعترف به بأنَّهُ ملكنا. يغتصب الموت الحتميُّ والغير الرحيم كُلَّ شيءٍ منَّا وفي الكثير من الأحيان وقبل موتنا تغتصبه منَّا أوضاعٌ غيرَ محسوبةٍ وانقلابات. نحن نتخلَّى حتَّى عن جسمنا على عتبة عهد الحياة الأبديَّة. إنَّ نفسَنا هي مُلكُنا وميراثُنا وكنزُنا، هي وحسب. يقول كلمة الله: "ماذا يعطي الإنسانُ فداءً عن نفسِهِ؟" لا نستطيع بأيِّ شيءٍ أن نستعيدَ نفسَنا الهالكة عندما يميتُها الموت الأبدي الّذي يقدِّم نفسهُ بإغراءٍ على أنَّهُ حياة.

أن نحمل صليبنا معناه أن نحتمل بشجاعةٍ نيرنا الثقيل والغير المرئي العذاب والشهادة الغير المرئيين من أجل الإنجيل أثناء جهادنا ضدَّ شهواتنا الخاصَّة وضدَّ الخطيئة الساكنة في داخلنا وضدَّ أرواح الشرِّ الّتي ستثور علينا بغضبٍ وستقف ضدَّنا بشدَّةٍ عندما سنقرِّرُ إسقاط نير الخطيئة من أنفسِنا والخضوعَ لنير المسيح. قال القدِّيس بولُس الرَّسول: "إِنَّ مُصَارَعَتَنَا لَيْسَتْ مَعَ دَمٍ وَلَحْمٍ، بَلْ مَعَ الرُّؤَسَاءِ، مَعَ السَّلاَطِينِ، مَعَ وُلاَةِ الْعَالَمِ عَلَى ظُلْمَةِ هذَا الدَّهْرِ، مَعَ أَجْنَادِ الشَّرِّ الرُّوحِيَّةِ فِي السَّمَاوِيَّاتِ" (أفسُس 6: 12). إنَّ أسلحة حربِنا الروحيَّة هي جسديَّة لكنَّ بعون اللهِ فهي قادرةٌ على تدمير معاقل: فنحن ندمِّر بهم أفكاراً وكُلَّ تعالٍ يقف عائقاً أمام معرفة الله ونأسُرُ كُلَّ عقلٍ كي يكون مطيعاً للمسيح (2 كورنثوس 10: 4-5).

إن إنجيل هذا اليوم ينتهي بهذه العبارة: (الحق أقول لكم: في جملة الحضور ههنا من لا يذوقون الموت، حتى يشاهدوا ملكوت الله آتياً بقوة). فليس المقصود هنا مجيء المسيح الثاني المجيد، في نهاية العالم. المقصود هو مجيء المسيح بقوة، الذي تم في العنصرة وكان الجيل المسيحي الأول شاهداً له. لكن المقصود أيضاً هو مجيء غير منظور، غير مشهدي للملكوت في النفوس المؤمنة الورعة. حبذا لو يكون مصيري الشخصي هكذا، حبذا لو أن الموت لا يدركني دون أن يتمكن ملك يسوع من نفسي.

ونحن أيضاً طريقنا طويل مع الصليب. الصليب هو المنارة التي ترشد المؤمن إلى الكنيسة وتعطيه صفة عضواُ كاملاً في جسم الكنيسة. أحبائي الصليب ليس مفروش بالرياحين ولكنه نحن نشتم منه الرائحة الجميلة لأن مخلص العالم علق عليه.