موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٠ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠١٥

فنظر إليه يسوع وأحبه

بقلم :
الأب رائد أبو ساحلية - فلسطين

نقرأ في انجيل هذا الأحد قصة السيد المسيح مع الشاب الغني الذي أقبل إلى يسوع وجثا له وسأله: «أَيُّهَا الْمُعَلِّمُ الصَّالِحُ مَاذَا أَعْمَلُ لأَرِثَ الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ؟» وكانت رغبته صادقة لذلك "رَكَضَ وَاحِدٌ وَجَثَا لَهُ وَسَأَلَهُ" فإن معدنه طيب فهو يحفظ الوصايا منذ حداثته ولكن ينقصه الكثير «يُعْوِزُكَ شَيْءٌ وَاحِدٌ. اذْهَبْ بِعْ كُلَّ مَا لَكَ وَأَعْطِ الْفُقَرَاءَ فَيَكُونَ لَكَ كَنْزٌ فِي السَّمَاءِ وَتَعَالَ اتْبَعْنِي حَامِلاً الصَّلِيبَ. ورغم أن السيد المسيح يقول: «يُعْوِزُكَ شَيْءٌ وَاحِدٌ» فأنا أرى أشياء: أن يبيع كل ما يملك، ثم يعطيه للفقراء، وبذلك يكون حراً فيتبعه ولكن بشرط حمل الصليب، اذن لسنا أمام شيء بل أشياء كثيرة وصعبة أيضاً، فيسوع متطلب ولا يقبل بالقليل بل يطلب الكثير وقد يبدو مستحيلاً على طبيعة الانسان البشري الأناني وخاصة عندما يكون غنياً. والجميل في هذا النص هو الحركات والكلمات والنظرات: فالشاب يركض إليه ويجثو له ويسأله، ويدور حوار بينه وبين يسوع بصيغة السؤال والجواب، وينتهي بنظرة يسوع اليه (بعيونه) وأحبه (بقلبه) ولكن للأسف ينقطع الحوار فجأة عندما لم يجد الشاب جواباً على نظرة الحب الالهي لذلك يقول الانجيل: "فَاغْتَمَّ عَلَى الْقَوْلِ وَمَضَى حَزِيناً لأَنَّهُ كَانَ ذَا أَمْوَالٍ كَثِيرَةٍ" فتصمت الكلمات ويحل مكانها الغم والحزن لا بل الهرب من أمام هذا التحدي المخيف من المعلم. لا يذكر الانجيل اسم هذا الشخص، فهو يتكلم عن "واحد" فهذا الواحد يمكن أن يكون أنا أو انت أو أي واحد منا، فلو طلب منا السيد المسيح ما طلب من هذا "الواحد" فماذا تتوقعون أن يكون الجواب؟ لم يعطي هذا "الواحد" جواباً فمضى مغموماً حزيناً... ونحن؟ إنه ينظر الينا ويحبنا فهل نقابل الحب بالحب أم بالرفض والهروب..!!! أسباب هذا الجواب السلبي بحسب انجيل اليوم أنه "كَانَ ذَا أَمْوَالٍ كَثِيرَةٍ" أي أنه متعلق بالمال وبالدنيا لدرجة أنها اصبحت حاجزا بينه وبين الله فهو يضع قلبه في كنزه الأرضي وليس في كنزه السماوي. ويغتنم يسوع الفرصة لكي يُلقن تلاميذه درساً في محبة المال والتعلق به لدرجة أنه يمكن يكون عائقاً لدخول ملكوت الله «مَا أَعْسَرَ دُخُولَ ذَوِي الأَمْوَالِ إِلَى مَلَكُوتِ اللَّهِ!» لا بل قد يكون مستحيلاً عليهم ويستعمل مثلاً شائعاً ليعبر عن ذلك: "مُرُورُ جَمَلٍ مِنْ ثَقْبِ إِبْرَةٍ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ اللَّهِ!» ويبدو يسوع قاسياً جداً على الاغنياء وكأنه يحكم عليهم بالهلاك.. وفي الحقيقة ان يسوع ليس ضد الاغنياء ولكن ضد التعلق المفرط في المال بحيث يصبح الهاً نعبده ويأخذ مكان الله في حياتنا كما قال يسوع في موضع آخر "لا تستطيعون أن تعبدوا ربين: الله والمال". وبالفعل فهو يركز على القول: «يَا بَنِيَّ مَا أَعْسَرَ دُخُولَ الْمُتَّكِلِينَ عَلَى الأَمْوَالِ إِلَى مَلَكُوتِ اللَّهِ! » أي أن الانسان يتكل على نفسه وماله وقوته بدلاً من الاتكال على الله. وهنا نصل الى المرحلة الثالثة من الانجيل عندما يتباهى بطرس بأنه والتلاميذ أفضل من هذا الشاب الغني لأنهم تركوا كل شيء وتبعوه: «هَا نَحْنُ قَدْ تَرَكْنَا كُلَّ شَيْءٍ وَتَبِعْنَاكَ». كأنه يقول فماذا سيكون مصيرنا؟ أو ما هي مكافأتنا؟ فَأَجَابَ يَسُوعُ: «الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ لَيْسَ أَحَدٌ تَرَكَ بَيْتاً أَوْ إِخْوَةً أَوْ أَخَوَاتٍ أَوْ أَباً أَوْ أُمّاً أَوِ امْرَأَةً أَوْ أَوْلاَداً أَوْ حُقُولاً لأَجْلِي وَلأَجْلِ الإِنْجِيلِ إِلاَّ وَيَأْخُذُ مِئَةَ ضِعْفٍ الآنَ فِي هَذَا الزَّمَانِ بُيُوتاً وَإِخْوَةً وَأَخَوَاتٍ وَأُمَّهَاتٍ وَأَوْلاَداً وَحُقُولاً مَعَ اضْطِهَادَاتٍ وَفِي الدَّهْرِ الآتِي الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ. وجواب يسوع فيه من الجذرية المُطلقة وكأنه يقول عليكم أن تتركوا "كل شيء" وأن تتبعوني قلباً وقالباً، نفساُ وروحاً وجسداُ "بقلب غير منقسم" على الاطلاق، فقط في هذه الحالة ستكون المكافأة الثلاثية: المئة ضعف الآن؛ الحياة الأبد في الدهر الآتي؛ ولكنه يضع في جملة معترضة "مَعَ اضْطِهَادَات" أي أن المكافأة لا تأتي بالسهل بل بالجهد والعناء والألم وحمل الصليب ودفع الثمن. صحيح أنه يعدنا في الدنيا وفي الآخرة ولكنه بنفس الوقت يطلب منا أن نهجر الدنيا لنربح الآخرة. ونحن نتأمل في هذا الانجيل نشعر بأنه ينطبق علينا كمسيحيين بشكلٍ عام ولكن علينا كمكرسين بشكلٍ خاص، ولكنه بنفس الوقت يشكل تحدياً كبيراً لنا جميعاً لا بل يطرح علينا أسئلة صعبة: فهل نحن على استعداد لأن نترك كل شيء ونتجرد من أمور الدنيا؟ هل نتبعه بكليتنا بقلب غير منقسم؟ هل نحن على استعداد لدفع الثمن؟ ما هو موقفنا من المال؟ ما هو موقفنا من الصليب والألم؟ هل تركنا لمصلحة شخصية منتظرين المكافأة أم بمجانية مطلقة؟ أسئلة كثيرة تحتاج الى أجوبة عملية...!!! الأب رائـد ابو ساحلية مدير عام كاريتاس القدس