موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ٣ يناير / كانون الثاني ٢٠٢٠

الأحد الثاني بعد عيد الميلاد

بقلم :
الأب منويل بدر - الأردن

الكلمة صار جسدا وسكن بيننا (الإنجيل يو 1: 1-5 و 9-14) على الحائط فوق باب كنيسة مكرّسة على اسم مريم المحبول بها بلا خطيئة (في مدينة Würzburg الألمانية) صورة منحوته فوق باب المدخل من الخارج تقدّم مشهد البشارة كالتالي: الملاك جبريل ( واسمه يعني قوة الله) نازل من السماء فوق مريم ليوصل لها كلمة الله، هذي الكلمة تخرج من فمه كأنها أنبوب ينقلها إلى مدخل أذن مريم، وبعد تبشيرها واستخبارها: كيف يكون ذلك وأنا لا أعرف رجلا. وجواب الملاك المُطمئِن لها: قوة العلي تظللك. وعندما قالت مريم: فليكن لي بحسب قولك. تتحول كلمة الله إلى شبه جنين صغير يدخل في أذن مريم لينزل في أحشائها. هنا نفهم ما قال يوحنا: والكلمة صار حقيقة. أي صارت إنسانا وسكن بيننا. نعم هذه الكلمة وُلِدت إنسانا بيننا في مغارة بيت لحم. وبعدها اهتم الفنانون على كل وجه الأرض، برسم أو نحت أو تمثال لهذا الطفل بحسب الفن الذي لا ينضب. حتى الأفريقان قدّموه بشكل قارتهم طفلا أسودا صغيرا. كلُّ فنان قدم الطفل حسب إلهامه الخاص، او تخيله، أو شعوره، أو فهمه أو قارّته، وبالتالي حسب إيمانه. من هنا كثرة الوجوه ليسوع التي لم تنضب حتى اليوم. نعم إنه لمن الصعب وضع صورة نهائية لوجه أي طفل، فكم بالحري ليسوع الذي يحمل في داخله وجه كل واحد منا. فعلى حق جملة يوحنا: الكلمة صار جسدا وسكن بيننا. فبمصيره إنسانا قد بدأ الله قصة جديدة معنا. إلى هذا الوقت كان الله بعيدا عنا، لا نقدر أن نتخيل من هو وكيف هو. من الميلاد نعرف أنه صار إنسانا مثلنا. فهذا حدث تاريخي مهم. بينما الكل كان يخاف لفظ اسمه كانت الملائكة ترنم له وتبجله بكلمات قدوس قدوس قدوس. والبعض يعطيه إسم الجلالة، الذي لا يحق لإنسان الإقتراب منه. إن ظهر، فكعليقة محترقة أو كشمس لا يقدر أحد أن ينطر فيها، كموسى على جبل سيناء، ارتمى بوجهه على الأرض، أو كطابة نار تتدحرج من فوق كما في فيلم الخروج. فلولا حادثِ الولادة لبقينا إلى اليوم لا نعرفه. فقد تجلت لنا محبة الله في وجه ابنه الذي صار شبيها لنا في كل شيء ما عدا الخطيئة. صار عمانوئيل أي الله معنا. فما عاد الله فوقنا بل معنا. لَبِسَ طبيعتنا البشريّة، إلى جانب طبيعته الإلهية، التي لم يفقدها بميلاده، كما أوضح لنا مجمع نيقيا عام 431، الأول من كلِّ العشرين مجمع المسكونية. بميلاده ما عاد مسكنه القصور بل القلوب البسيطة. "الكلمة صار جسدا وسكن بيننا، ورأينا مجده، مجدا من لدن الآب، لابن وحيد، مِلْؤُه النعمة والحق (يو 1: 14). لذا لا نستغرب من الكنيسة أنها تأخذ نص نفس إنجيل عيد الميلاد، الذي أكثره عبارات لاهوتية عميقة، بعد ما أسمعتنا إياه عدة مرات من عيد الميلاد إلى اليوم. فماذا تقصد؟ قال المثل: في الإعادة إفادة. وبهذه الطريقة، فهي تريد التشديد على أهم ما يحويه عيد او حدث ظهور الله بيننا، في صورة بشر، بل ماذا يعني لنا ميلاد الله، الذي فيه نرنم: اليوم فتح الله باب السماء ونزل بيننا. نعم اليوم فتح الله باب السماء واهدانا ابنه. فهنا إحصائية قامت بسؤال ألف شخص ، محتواه ما هو أول شيء يخطر على بالك، عندما تسمع كلمة عيد الميلاد؟ النتيجة أنّ 14% فقط خطر على بالهم عيد ميلاد الطفل يسوع في مغارة بيت لحم، وأما الأغلبية، أعني 84% فأول ما خطر على بالهم هي الهدايا، إما التي اشتروها هم، أو حصلوا عليها من صديق أو شريك حياتهم، ثم سفرة أو عزومة نادرة بسبب هذا العيد، وال 2% فقد افتكروا في الوحدة القاتلة التي عاشوها، إذ لم يفتكر بهم أحد فعاشوا أيام عيد حزينة. فماذا يعني لنا نحن عيد الميلاد، ولماذا نسمع النص المهم، والبشرى السّارة، أي "والكلمة صار إنسانا وسكن بيننا"، مرارا وتكرارا في هذا الزمان؟ خاصة وأن أكثر علامات الفرح الخارجية، من هدايا وعزائم وأيام العطلة، قد زالت وانتهت. لذا قد حان الوقت لوَقْفَةٍ تأمّليه بمحتوى هذي البشرى وبماذا تقوله لنا. هل نسينا الأضواء اللّماعة على شوارعنا وفي بيوتنا، هل نسينا أغاني العيد في الشوارع العامة والمحال التجارية، التي كانت تبهرنا بمعروضاتها الجذابة والمغرية، بحجة أنها ظهرت خصيصا للإحتفال بعيد الميلاد، هذا وكم من ضحيّةِ، وقع في إغرائها. أما حان الوقت لنفهم ما قال لنا يوحنا: والكلمة صار إنسانا وسكن بيننا"، هذا وقد أعطانا سلطانا أن نصير أبناء الله. من ملئه نحن جميعا أخذنا ونعمة فوق نعمة(يو 1: 13 و16). فعيد الميلاد هو ليس احتفالا عابرا، وإنما حقيقة باقية ودائمة، بوسعها أن تضع فينا الأمل الحي، لسنة وحياة ناجحة. باقي الديانات تدّعي أنّ العالم أوجد نفسه بنفسه. لكن أي عقل يقبلُ مِثْلَ هذا الإدّعاء الغيرَ مُقنع، إذ لا أحد يهتم فيه وفينا ، مثلما فعل إلهُنا وخالقُ عالمنا، الذي ظهر لنا طفلا في بيت لحم؟ نعم في بداية الكون، حيث كانت روحه ترفرف على وجه هذه الأرض، سبقت محبته التي أظهرها لنا "لقد ظهر لطف الله ومحبته"(تيطس 3: 4) لا لأعمال برٍّ عملناها نحن، بل بمقتضى رحمته". فهذا يعني أن الله بالذات يعتني بالعالم خلقِه وبنا. لذا صارت كلمته جسداً وسكن بيننا. لمّا تم الزمان، قال بولس أرسل الله ابنه مولودا من امر أة وصار شبيها لنا في كل شيء ما عدا الخطيئة. نعم في بيت لحم أرض يهوذا، تم ذلك وأضاء نورُه في الظلمة، أما قال أشعيا "الشعب السالك في الظلمة يرى نورا"، ولو أنَّ النّاس لم يُدركوا ذلك. لكنْ هذي هي رسالة الميلاد الدائمة، التي لا شبيهَ لها في باقي الدّيانات بل هي النقطة الرئيسية في ديانتنا. فما عدنا نقول: الله ساكن في غيومه في السماء لم تره عين أو سمعت به أُذنٌ، والإنسان منفيّ على على وجه الأرض، يائساً وميؤوساً منه، بل كما قال أشعيا: "قولوا لخائفي القلوب: أنظروا! هوذا إلهكم"(أشع 35: 4).نعم إلهنا سكن في وسطنا، مثلما كان تابوت العهد في وسط شعبه، سار معه يحميه 40 سنة على طريقه إلى أرض الميعاد. لقد قدّس أرضنا ومساكننا بل ونفوسنا، إذ جعل منها مسكنا له، بل ولقد عمل أكثر من ذلك فيما بعد، فقد تألم ومات من أجلنا، فصار موتُه ورقةً رابحةً بيده، يريها لأبيه أنه مات لأجلنا، فنلتقي جميعنا أمام العرش السماوي. لقد صالَحَنا الإبن مع أبيه بموته عنا على الصليب. هذا العمل هو نتيجة تجسده ومولده بيننا، فهو ما عاد بعيدا عنا وعن عالمنا، جالسا وراء الغيوم، بل جعل من اسطبل بيت لحم قلب العالم، تُمْكِن زيارته من كل أنحاء العالم، والعكس أيضا صحيح، أنه هو من هناك يستطيع أن يزور العالم. فكان الرعاة أول من زاره في هذا الإسطبل: "هلمّ بنا إلى بيت لحم فنرى ما حدث"(لو 2: 15). ثم لحقهم المجوس من بلادهم البعيدة ، إذ رؤوا نجمه الذي قادهم إلى هذا الإسطبل، فجاؤوا وسجدوا له. وبالتالي يقدر يوحنا أن يشير إليه بإصبعه ويقول: أنظروا! هوذا حمل الله، ، الذي يحمل خطايا العالم"(يو 1: 29). لقد كان الحمل مُهِمّاً في مراسيم الديانة، حيث كان من يقدر على ذلك، يُحضر معه حملا إلى ساحة الهيكل، ويذبحه هناك كتقدمة. نصفُه كان مكرسا لله فيُحْرِق، والقسم الثاني كان يحق أكله. ومرة في السنة، يوم التكفير المسمى بيوم كِبُّور، كان رئيس الكهنة يُدخِل حملا قدام الهيكل، فيقترب منه كل واحد من الحضور، يضع يده عليه ويُحَمِّلُه أثامه، وبالتالي كان يُعتبر هذا الحمل نجسا ، مُحمّلا بخطايا الشعب، فلا يجوز أكله بل كان رئيس الكهنة يقوده إلى الصحراء ويذبحه هناك ويتركه فيصبح طعاما للوحوش. يوحنا يدعو يسوع حمل الله الجديد الذي سيحلُّ محلَّ الحمل القديم، ويحمل خطايانا جميعنا: أنا متى ارتفعت، جذبتُ إليَّ الجميع. ليلة عيد الميلاد، قد جاء النور إلى العالم كي يضيء لكل البشر، ليس ليوم واحد أو جيل واحد بل لكل الأيام والأجيال. إذن عيد الميلاد ما انتهى ولن ينتهي، حتى يرى كل العالم وكل البشر هذا النور، خاصة حيثما يَفْتحُ له الإنسان باب قلبه، ويعطيه إيّاه من جديد اسطبلا يسكنه، أو أيضا يقبل أن يُبْدِلَ الظلمة فيه إلى نور: " هو كان النور الحقيقي الذي ينير كل إنسان أتياً إلى العالم. كل الّذين قبلوه أعطاهم سلطانا أن يصيروا أبناء الله". تكرار النص إذن، الكلمة صار جسدا وسكن بيننا، يُبرهن لنا أن الله يأتي إلى كل إنسان. الله يطرق على باب كلِّ واحد منّا، ويريد أن يدخل عندنا، إن فتحنا له الباب نحن، لأن هذا الباب يُفْتَح فقط من الداخل، ويقول: من فتح الباب آتي إليه وأسكن معه. أيّةُ ديانة تقدِّم لنا مثل هذا الخبر السار والمُعزّي؟ أيّةُ ديانة تجعلنا نشعر بقرب ربنا لنا، مثلُ ديانتنا؟ الكلمة صار جسدا وسكن بيننا، وإلى الأبد. لذا نحن بحاجة أن نعيِّد هذا الحدث كلَّ سنةٍ من جديد وإلى الأبد.