موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ٣٠ مايو / أيار ٢٠١٩

أحد الاعمى

بقلم :
الأب بطرس جنحو - الأردن

فصل شريف من بشارة القديس يوحنا ( يوحنا 9 : 1 – 38 ) في ذلك الزمان فِيمَا يَسُوعَ مُجْتَازٌ رَأَى إِنْسَاناً أَعْمَى مُنْذُ مولدهِ * فَسَأَلَهُ تلاَمِيذُهُ قائلين يَا ربُ مَنْ أَخْطَأَ أهَذَا أَمْ أَبَوَاهُ حَتَّى وُلِدَ أَعْمَى * أَجَابَ يَسُوعُ لاَ هَذَا أَخْطَأَ وَلاَ أَبَوَاهُ لَكِنْ لِتَظْهَرَ أَعْمَالُ اللَّهِ فِيهِ * يَنْبَغِي لي أَنْ أَعْمَلَ أَعْمَالَ الَّذِي أَرْسَلَنِي مَا دَامَ نَهَارٌ. يَأْتِي لَيْلٌ حِينَ لاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَعْمَلَ * مَا دُمْتُ فِي الْعَالَمِ فَأَنَا نُورُ الْعَالَمِ * قَالَ هَذَا وَتَفَلَ عَلَى الأَرْضِ وَصَنَعَ مِنَ تُّفْلتهِ طِيناً وَطَلَى بِالطِّينِ عَيْنَيِ الأَعْمَى * وَقَالَ لَهُ ?ذْهَبِ اغْتَسِلْ فِي بِرْكَةِ سِلْوَامَ ( الَّذِي تَفْسِيرُهُ المُرْسَل ). فَمَضَى وَاغْتَسَلَ وعاد بَصِيراً * فَالْجِيرَانُ وَالَّذِينَ كَانُوا يَرَوْنَهُ من قبل أَنَّهُ كَانَ أَعْمَى قَالُوا أَلَيْسَ هَذَا هُوَ الَّذِي كَانَ يَجْلِسُ وَيَسْتَعْطِي . فقال بعضهم هَذَا هُوَ * وَآخَرُونَ قالوا إِنَّهُ يُشْبِهُهُ . وَأَمَّا هُوَ فكان يقَولَ إِنِّي أَنَا هُو * فَقَالُوا لَهُ كَيْفَ انْفَتَحَتْ عَيْنَاكَ * أَجَابَ ذَاكَ وقَالَ إِنْسَانٌ يُقَالُ لَهُ يَسُوعُ صَنَعَ طِينًا وَطَلَى عَيْنَيَّ وَقَالَ لِي اذْهَبْ إِلَى بِرْكَةِ سِلْوَامَ وَاغْتَسِلْ. فَمَضَيْتُ وَاغْتَسَلْتُ فَأَبْصَرْتُ * فَقَالُوا لَهُ أَيْنَ ذَاكَ . فقَالَ لاَ أَعْلَمُ * فَأَتَوْا بِه أي بِالَّذِي كَانَ قَبْلاً أَعْمَى إِلَى الْفَرِّيسِيِّينَ * وَكَانَ حِينَ صَنَعَ يَسُوعُ الطِّينَ وَفَتَحَ عَيْنَيْهِ يومُ سَبْتٍ * فَسَأَلَهُ الْفَرِّيسِيُّونَ أَيْضًا كَيْفَ أَبْصَرَ . فَقَالَ لَهُمْ جعلَ عَلَى عَيْنَيَّ طِينًا ثم اغْتَسَلْتُ فَأَنَا الآن أُبْصِرُ * فَقَالَ قَوْمٌ مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ هذَا الإِنْسَانُ لَيْسَ مِنَ اللهِ لأَنَّهُ لاَ يَحْفَظُ السَّبْتَ * آخَرُونَ قَالُوا كَيْفَ يَقْدِرُ إِنْسَانٌ خَاطِئٌ أَنْ يَعْمَلَ مِثْلَ هذِهِ الآيَاتِ * فوقع بَيْنَهُمُ شِقَاقٌ * فقَالُوا أَيْضًا لِلأَعْمَى مَاذَا تَقُولُ أَنْتَ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ فَتَحَ عَيْنَيْكَ * فَقَالَ إِنَّهُ نَبِيٌّ * ولَمْ يُصَدِّقِ الْيَهُودُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ أَعْمَى فَأَبْصَرَ حَتَّى دَعَوْا أَبَوَيِ الَّذِي أَبْصَرَ * وسَأَلُوهُمَا قَائِلِينَ أَهذَا هو ابْنُكُمَا الَّذِي تَقُولاَنِ إِنَّهُ وُلِدَ أَعْمَى . فَكَيْفَ أُبْصِرَ الآنَ * أَجَابَهُمْ أَبَوَاهُ وَقَالا نحن نَعْلَمُ أَنَّ هذَا ولدنا وَأَنَّهُ وُلِدَ أَعْمَى * وَأَمَّا كَيْفَ أُبْصِرَ الآنَ فَلاَ نَعْلَمُ أَوْ مَنْ فَتَحَ عَيْنَيْهِ فنَحْنُ لاَ نَعْلَمُ . هُوَ كَامِلُ السِّنِّ فاسْأَلُوهُ فَهُوَ يَتَكَلَّمُ عَنْ نَفْسِهِ * قَالَ أَبَوَاهُ هذَا لأَنَّهُمَا كَانَا يَخَافَانِ مِنَ الْيَهُودِ . لأَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا قَدْ تَعَاهَدُوا أَنَّهُ إِنِ اعْتَرَفَ أَحَدٌ بِأَنَّهُ الْمَسِيحُ يُخْرَجُ مِنَ الْمَجْمَعِ * فلِذلِكَ قَالَ أَبَوَاهُ هو كَامِلُ السِّنِّ فأسْأَلُوهُ * فَدَعَوْا ثَانِيَةً الإِنْسَانَ الَّذِي كَانَ أَعْمَى وَقَالُوا لَهُ أَعْطِ مَجْدًا ِللهِ. فانَّا نَعْلَمُ أَنَّ هذَا الإِنْسَانَ خَاطِئٌ * فَأَجَابَ ذَاكَ وَقَالَ أَخَاطِئٌ هُوَ لا أَعْلَمُ. إِنَّمَا أَعْلَمُ شَيْئًا وَاحِدًا أَنِّي كُنْتُ أَعْمَى وَالآنَ انا أُبْصِرُ * فَقَالُوا لَهُ أَيْضًا مَاذَ ا صَنَعَ بِكَ . كَيْفَ فَتَحَ عَيْنَيْكَ * أَجَابَهُمْ قَدْ اخبرتكم فلَمْ تَسْمَعُوا. فِمَاذَا تُرِيدُونَ أَنْ تَسْمَعُوا أَيْضًا . أَلَعَلَّكُمْ أَنْتُمْ أيضاً تُرِيدُونَ أَنْ تَصِيرُوا لَهُ تَلاَمِيذَ * فَشَتَمُوهُ وَقَالُوا أَنْتَ تِلْمِيذُ ذَاكَ . فأَمَّا نَحْنُ فَإِنَّا تَلاَمِيذُ مُوسَى * ونَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ اللهُ قدْ كَلَّمَ مُوسَى. فَأَمَّا هذَا فلا نَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ هُوَ * أَجَابَ الرَّجُلُ وَقَالَ لَهُمْ إِنَّ فِي هذَا عَجَبًا إِنَّكُمْ ما تَعْلَمُونَ مِنْ أَيْنَ هُوَ وَقَدْ فَتَحَ عَيْنَيَّ * ونحن نَعْلَمُ أَنَّ اللهَ لاَ يَسْمَعُ لِلْخُطَاةِ. وَلكِنْ اذا أَحَدٌ اتَّقِى اللهَ وَعمَلَ مَشِيئَتَهُ فَلِهُ يَستجيب * مُنْذُ الدَّهْرِ لَمْ يُسْمَعْ أَنَّ أَحَدًا فَتَحَ عَيْنَيْ مَوْلُودٍ أَعْمَى * فلَوْ لَمْ يَكُنْ هذَا مِنَ اللهِ لَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا * أجَابُوهُ وَقَالُوا لَهُ اَّنك فِي الْخَطَايَا قدْ وُلِدْتَ بِجُمْلَتِكَ . أفأَنْتَ تُعَلِّمُنَا . فَأَخْرَجُوهُ خَارِجًا * وَسَمِعَ يَسُوعُ أَنَّهُمْ أَخْرَجُوهُ خَارِجًا. فَوَجَدَهُ وَقَالَ لَهُ أَتُؤْمِنُ انت بِابْنِ اللهِ * فأَجَابَ ذَاكَ وَقَالَ فمَنْ هُوَ يَا سَيِّدُ لأُومِنَ بِهِ * فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ قَدْ رَأَيْتَهُ وَالَّذِي يَتَكَلَّمُ مَعَكَ هُوَ هُوَ * فَقَالَ لهُ قد آمنت يا ربُّ وَسَجَدَ لَهُ. بسم الأب والأبن والروح القدس الإله الواحد أمين. هي المعجزة الأخيرة التي سوف يقوم بها يسوع قبل دخوله الى أورشليم. يسوع يطلب دوماً من الّذين شفاهم ومن التلاميذ عدم إعلان هويّته، لا خوفاً من اليهود إنّما لأن الشعب لم يكن بعد مستعدّاً لفهم حقيقة هويّته ودوره، ولهذا صرخوا له أثناء دخوله أورشليم، ظنّاً منهم أنّه المخلّص العسكري والقائد اليهوديّ المزمع رفع النير اليونانيّ عنهم. الشعب يقدر أن يفهم بواسطة الله نفسه الّذي يتدخّل ليفتح أعينهم، وهذا الحدث هنا، رواية شفاء الأعمى، الى جانب حقيقته التاريخيّة، ينطوي على بعدٍ مهمّ: لقد فتح الله عيني الأعمى كما فتح أعين الشعب ليصبحوا قادرين على فهم هويّة يسوع المسيح. الإيمان هي حالة انطلاق من الهامش الى عمق الوجود، ومن حالة الظلمة الى حالة النور. لقد بدأ الأعمى بالسماع لا بالمعاينة، يسمع عن يسوع، يخبره الآخرون عن قدرته، وهو باقٍ على هامش الطريق. في ذلك اليوم مرّ يسوع من هناك، عابراً المدينة، فاغتنم الأعمى فرصته الوحيدة. الإيمان يدعونا الى تغيير حالة لا الى اعتناق عقيدة أو نظرة فلسفية، هو تغيير حالة وجودنا الإنساني من حالة الثبات في الروتين، من حالة البقاء على هامش طريق الحياة، الى حالة الإنسان "الواثب" مثل الأعمى، يلقى عنه رداء عاداته، ومهنته، رداء حياته الفارغة وينطلق وراء يسوع، معلناً إيّاه المخلّص وطالباً منه الرحمة. الإيمان هو صرخة تنطلق نحو شخص لا نراه، إنّما نعلم أنّه موجود وأنّه قادر على تغيير واقع حياتنا. الأعمى لم ير يسوع بنور العين الجسديّة، إنّما آمن به، وبدافع من رجائه العميق وثقته بقدرة الرّب صرخ له: إريد أن أبصر. هي حقيقة إيماننا، لا ننطلق من المعاينة لنفهم، بل نؤمن بإله سمعنا عنه كما سمع ذاك الأعمى عن قدرته، نعلم أنّه يدعونا فنثب وراءه، نسمع صوته، نعلنه مخلّصاً، فنبصر. مسيرة الإيمان تنطلق من دوماً من عدم المعاينة الى المعاينة، فلو كنّا نبصر ما نؤمن به لما كان إيماناً، لأضحى ضمانة ملموسة وحسيّة. لا يمكننا أن نفتّش عن الضمانات الحسيّة الملموسة لإيماننا، بل نثق ونؤمن، وعندها نبصر، لا بعين الجسد أو العقل، إنّما بواسطة الحبّ الّذي يبادلنا إياه الرّب. نلمس عمله في حياتنا، نختبر حضوره معنا، ينتشلنا مروره من هامش عبثية الحياة ليضعنا في صميم العلاقة الإلهيّة، يصبح لوجودنا معنى بدخولنا في علاقة مع السيّد. العوائق التي كادت تمنع الأعمى من الوصول الى يسوع هي نفسها تمنعنا من التعرّف الى يسوع يمرّ في حياتنا ويدعونا للسير وراءه على طريق أورشليم نحو الجلجلة والقيامة. لقد أخذ الجمع ينتهره ليسكت، وينتهرنا عالم اليوم لنسكت نحن أيضاً، يخنق منطق العصر فينا الرجاء، يغلقنا على منطق العنف والقوّة والحرب، أو على منطق المادّة والإستهلاك، أو على السعي الى لذّة عابرة تنتهي فنبدأ بالتفتيش عن أخرى. الأقوياء بأفكار قلوبهم يفتّشون عن ضمانات حسيّة. والعائق الآخر كان يمكن أن يكون الثوب الّذي كان يملكه، مُلكه الأوحد. لو تعلّق به لكان خسر يسوع، لو خاف من خسارة من يملك لكان مرّ يسوع وعبر، لو خاف من فقدان المكان على قارعة الطريق أو من رمي الثوب والركض خلف يسوع، لما كان قد شُفي. هي عوائق إيماننا نحن أيضاً: كم يخيفنا منطق الترك والتغيير؟ كم نرغب بالثبات ولو كان هذا الثبات لا يلذّ لنا. إنجيل اليوم يظهر أنّ الأعمى الحقيقي ليس من فقد النظر بالعين لأن هذا الأعمى، رغم انه فقد النظر بعينيه، إلا أنّه يبصر بقلبه وعقله وفكره وما قوله ليسوع : "يا ابن الله"، في وسط الجموع، إلا تأكيداً على أنّ قلبه وفكره كانا مستنيرين ومبصرين. العمى الحقيقي إذاً هو العمى الداخلي أي العمى عن الحقيقة الّتي أضحت البشرية بأمس الحاجة لمعرفتها. "يا يسوع ابن الله الحي ارحمني"، فالرحمة البشرية جيّدة ولكن الرحمة البشرية هي عطف وحنان إلى حين أمّا الرحمة الإلهية فهي تُدخل المرء في الرحم الروحي لتلده ثانية معافًى، متمتعاً بمواهب الروح القدس. دعوة الإيمان هي الترك والإنطلاق خلف يسوع. ترك أفكارنا الخاطئة، أو عاداتنا السيئة، أو خطايانا اليوميّة، أو منطقنا المغلوط. ترك كبريائنا أو حسدنا أو حقدنا أو كسلنا. اتّباع المسيح يستلزم كياناً قادراً على الوثب كما وثب ذلك الأعمى، كياناً غير خائف من التغيير، فإن لم نتخلَّ عن ثقل ما نملك، لا يمكننا التتلمذ ليسوع. إذاً النعمة الحقيقيّة ليست اكتساب النظر، بل هي رؤية يسوع مشعاً في حياتنا.