موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الثلاثاء، ٣٠ ابريل / نيسان ٢٠٢٤

"فَيْضُ الحبّ" بين كاتب سفر المزامير والإنجيل الرابع

بقلم :
د. سميرة يوسف سيداروس - إيطاليا
سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (مز 97 (98)؛ يو 15: 9- 17)

سِلسلة قِراءات كِتابيّة بين العَهدَّين (مز 97 (98)؛ يو 15: 9- 17)

 

الأحد السادس لقيامة الرّبّ (ب)

 

مُقدّمة

 

"المسيحُ قام" نختتم هذا الأسبوع قرائتنا الكتابيّة فيما بين العهدين، والّتي تدور حول إتمام سرّ يسوع الفصحيّ. سنستمر من جانب العهد الأوّل في تقديم تفسير المزمور الـ97 (98) حيث يدعونا كاتب سفر المزامير إلى التهليل للعجائب الإلهيّة الّتي يُتممّها الرّبّ الإله بحياتنا. ثمّ بالعهد الثاني نتغلل بعمق في زمن الفصح فيجعلنا ندخل أكثر فأكثر في سرّ فصح الرب. مرافقة القائم الّذي بعطر حياته إنتشلنا من عطب الحياة وبتطهيرنا من يّد الآب جعل الملكوت وهو العدّن الجديد مُشَّرع أمامنا من جديد والسبب هو عبور يسوع الابن مسيرة الآلم والموت والقيامة من أجلنا. لذا سنستكمل قرائتنا الّتي بدأناها بالمقال السابق بهدف التعمق في سرّ الفصح الّذي بدأنا الاحتفال به في الثلاثية الفصحيّة لإعادة خلق حياة الكنيسة والبشرية (يو 15: 9-17). يتميز هذا المقال وهو السادس من زمن الفصح بشكل رئيسي بموضوع وصية الحب - الأغابي. نهدف في هذا المقال إلى التركيز على وجه الحبّ وما يتوجب علينا كأحباء ولسنا بعد خدام!

 

 

1. إعلان الحبّ (مز 97)

 

كاتب سفر المزامير، وهو السفر الّذي ينتمي للكتب الحكميّة، يُعدّد أعمال الرّبّ الفائقة الطبيعة، والّتي من خلالها يعلن حبّه بقوله: «أَنشِدوا للِرَّبِّ نشيدًا جَديدًا فإِنَّه صَنعً العَجائِب، الخَلاص بِيَمينه بِذِراعِه القُدُّوسة. كَشَفَ الرَّبُّ خَلاصَه لِعُيونِ الأمَمِ كَشَفَ بِرَّه، ذَكَرَ رَحمَتَه وأَمانَتَه لِبَيتِ إِسْرائيل فرأَت جَميعُ أَقاصي الأَرضِ خَلاصَ إِلهِنا» (مز 97: 1- 3).  مما يكشف لنا قوة الرّبّ وإستمرار كشف حبّه الّذي بدأه من العهد الأوّل وتواصل بعمق في العهد الثاني حتى سلّمه لنا من خلال إبنه يسوع الّذي كشف عن مخطط الله الآب وأعلن لنا عن مخططه قولاً وفعلاً. وهذا يهيئنا لنتناول موضوع فيض الحبّ من خلال الوجهة اليوحنّاويّة والّذي يدعونا إلى قبول هذا الحبّ بل وإلى عناصر أخرى تربط الإنسان بالآب والابن.

 

 

2. حبّ الآب وحبّ الابن! (يو 15: 9-17)

 

هذا المقطع الّذي سنتعمق فيه بحسب إنجيل يوحنّا هو من أجمل النصوص الكتابيّة الّتي تّرد على لسان يسوع في شكل مونولج، تعليم كامل بصوت المعلم دون تدّخل تلاميذه في الحوار. فمنذ بدء الإصحاح الرابع عشر، هذا التعليم قد يظهر لنا في أوّل وهّلة، بأنّها عبارات كثيفة وجميلة ومعروفة، ولكن يصعب علينا فهم إرتباطها المتبادل بما ذكره قبلاً مع إستعارة يسوع بالكرمة، والكرّام والاغصان. هذا هو هدفنا بالضبط الّذي سنحاول القيام، بمقالنا هذا، به لفهم العلاقة بين هذه الكلمات (راج يو 14: 9- 17) والسرّ الفصحي الّذي نحتفل به في هذا الزمن.

 

يبدأ يسوع هذا المقطع بعبارة تُكثف رسالة الحبّ بأكملها في ذاته: «كما أَحَبَّني الآب فكذلكَ أَحبَبتُكم أَنا أَيضاً. اُثبُتوا في مَحَبَّتي» (يو 15: 9). على غرار التعبير في اللغة اليونانية Agape حيث يمكننا أنّ نسمع يسوع يقول ببساطة "الحبّ الّذي هو ليّ هو بذاته لكم أيضًا". هنا يكمن سرّ العلاقة بين الكرمة والأغصان (يو 15: 1 - 8) الّتي ركزنا عليها بمقالنا السابق. تشير الآية الّتي يفتتح بها يوحنّا هذا المقطع، على لسان يسوع، أنّ أمامنا كقراء مؤمنين ثلاثة من الأبطال والرابط الّذي يجمع بينهم هو فيض الحبّ. هؤلاء الثلاث هم يسوع، الآب، التلاميذ (نحن اليّوم). إذن هناك الحبّ وهو المضمون الأساسيّ في هذه العلاقة، ذلك الّذي يربط الآب والابن، والّذي يمثل جوهر العلاقة بينهم. أصل هذا الحبّ ينطلق من الآب والابن ليتجسد بين الابن ونحن- تلاميذه. لقد أحبّ يسوع خاصته (راج يو 1: 6؛ 13: 1) كما أحبّه الآب، ونحن تلاميذه مدعوين إلى البقاء والمكوث في فيض هذا الحبّ الإلهي.

 

 

3. حفظ الوصايا أم حبّ؟ (يو 15: 10-12)

 

فما ما هي سمّات هذا الحبّ؟ كيف يتم التعبير عنه؟ يخبرنا الإنجيل بحسب يوحنّا، وهو البُشرى المتميزة بهذا الحبّ الإلهي، بأنّ البقاء في حبّ يسوع يتطلب: «إِذا حَفِظتُم وَصايايَ تَثبُتونَ في مَحَبَّتي كَما أَنِّي حَفِظتُ وَصايا أَبي وأَثبُتُ في مَحَبَّتِه» (يو 15: 10).  تعبير إذا حفظتم ليس هو شرطًا، بل هو بيئة حيوية تُعطى مجانًا، ويجب ألّا نهملها كتلاميذ للقائم. بل تجفزنا للأمانة لتعليم المعلم ومعايشته، ليس لإرضائه بل لذواتنا لينطّبعا حياة وحبّ يسوع فينا حقًا، فنصير تلاميذه. مما يعني أنّ الثبات في فيض الحبّ هذا يتطلب قبلاً حفظ وصاياه. يمكننا ترجمتها أيضًا إلى تنفيذ ومعايشة ما أشار إلينا به من تعاليم لتُتممّ هذا الحبّ في الحياة وتجسّده. يستخدم الإنجيلي أفعال تمسُّ حياتنا ككنيسة في زمن غياب العريس الإلهي جسديًا وتدعونا أيضًا لإنتظاره وبمكننا تفسير فعل إحفظ بأفعال أخرى تُبسطه وهي: "إنهض"، "راقب"، "أُحرس". قد نتفاجئ في البداية من أنّ تعبير "حفظ الوصايا" يجعلنا نعتبر الحقيقة المسيحية شيئًا مرتبطًا بالشريعة وبحفظ قواعدها بشكل تامّ. أمام هذا الـمُعتقد يمكننا أنّ نتسأل: هل هذه، بالضبط، هي رسالة يسوع الّتي يريد الإنجيليّ يوحنّا أنّ يبثّها لنا اليّوم؟ هل يمكننا أنّ نطلق على حفظ الوصايا والشريعة بما يسمى حبّ من طرفنا كمؤمنين؟ وكيف يمكن أنّ يكون دورنا في حفظ الوصايا مصدر فرح كامل لنا اليّوم؟

 

النص واضح جدا من خلال قول يسوع الصريح: «وصِيَّتي هي: أَحِبُّوا بَعضُكم بَعضاً كما أَحبَبتُكم» (يو 15: 12). الوصية الوحيدة الّتي تركها يسوع بمثابة ميراث لنا والّتي من خلالها يؤكد يسوع أنّ تلاميذه يستطيعون أنّ يمكثوا في فيض الحبّ الّذي أعطاه بدون شروط وبمجانيّة مُطلقة. إنّ الوصيّة الّتي يجب علينا كتلاميذ أنّ نحفظها ليستمر ويدوم  حبّ يسوع الفيّاض هي وصيّة الحبّ الـمُتبادل. مصدر هذا الحبّ لنا كتلاميذ اليّوم هو يسوع الّذي بأقواله وأفعاله جسّد وأتمّ في جسده فيض حبّ الآب له ولنا.  يمكننا أن نعتبره ميراث الحبّ الّذي ينتقل من الآب إلى يسوع ومن يسوع إلينا نحن اليّوم تلاميذه. لا يشير يسوع إلى القواعد الّتي يجب أنّ نتبعها من أجل البقاء في حبّه، بل يشير إلى نموذج يجب تجسيده وعدم الانحراف عنه.

 

 

4. وجه الحبّ (يو 15: 13- 17)

 

بناء على ما ذكرناه حتّى الآن يمكننا أنّ نتسأل: ما هو وجه الحبّ الّذي أحبنا به يسوع كتلاميذ له: إنّه وجه فصحه وعبوره، وجه حياته الّتي بذل فيها ذاته بالكامل، من أجلنا ومن أجل خلاصنا. لكنّ يسوع أعلن في تعليمه هذا  كل شيء سواء لتلاميذ عصره أم لنا نحن تلاميذه بعصرنا اليّوم.  أعلن يسوع تلك المحبة نفسها الّتي أحبه بها الآب دائمًا ومن خلالها أعلن لنا، في آخر عيد له بالفصح، كل شيء قائلاً: «لَيسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعظمُ مِن أَن يَبذِلَ نَفَسَه في سَبيلِ أَحِبَّائِه» (يو 15: 13).

 

يستطيع يسوع القائم أنّ يدعونا تلاميذه، ليس عبيدًا، بل أصدقاء، لأننا حينما نعرف ما يفعل معلمنا القائم لأجلنا اليّوم بعد إتمام سرّ حبه في فصحه. كشف يسوع في فصحه عن كلّ ما سمعه من الآب، والحبّ الّذي أحبه الآب له وأعطانا إياه على الصليب بالكامل. لقد منحنا في هذا الزمن الفصحيّ حياته الدائمة لأنه نجح في أنّ يظهر لنا وجه الحبّ بحسب الله الآب: «لا أَدعوكم خَدَماً بعدَ اليَوم لِأَنَّ الخادِمَ لا يَعلَمُ ما يَعمَلُ سَيِّدُه. فَقَد دَعَوتُكم أَحِبَّائي لأَنِّي أَطلَعتُكم على كُلِّ ما سَمِعتُه مِن أَبي» (يو 15: 15). إن كلمة كما الأوليّة بحسب يوحنّا لا تشير إلى مقارنة بين حقيقتين متشابهتين، بل تشير إلى مصدر وأصل الواقع: سندوم كتلاميذ ليسوع في حبه إذا عرفونا كيف نحافظون على حياة الحبّ والشركة فيما بيننا فيصير وجه مطبوع في وجوهنا وحياتنا. قرارنا بالاستمرارية مع أصل الحبّ الّذي هو يسوع القائم، تؤكد إستمراريّتنا في فصح معلمنا في هذا الزمن الفصحيّ للرّبّ. هذا هو السبب الّذي يجعل من زمننا الفصحيّ مصدر الحبّ وفيضه. فيض الحبّ الّذي لن ينتصر ولكنه وُهب لنا مجانًا من فيض حب الآب والابن. أظهر هذا الفيض بأننا مختارون ومحبوبون أولاً من قبل الآب والابن.

 

 

الخلّاصة

 

قبول الحبّ الإلهي من خلال التهليل البشري هي رسالة كاتب سفر المزامير الّذي سعينّا من خلال قرائتنا للمزمور الـ 97 (98) أنّ نشدد عليه كفكر لّاهوتي لكاتب سفر المزامير الحكميّ. ومن خلال المقطع الثاني بحسب إنجيل يوحنّا (15: 7- 15)، سمعنا وصيّة يسوع الّذي يُسلّمنا، من جديد، ما تسلّمه من الآب بمجانيّة ونحتفل في كل ذبيحة إلهيّة بسرّ تقديم ذاته وفيض حبه العظيم. من خلال يسوع القائم والّذي أفاض بحب الآب علينا نستطيع اليّوم، كنساء ورجال بعصرنا أنّ نقرر الدخول في دائرة فيض الحبّ، في علاقة فياضة من الحبّ الّتي توحّد الآب والابن، وذلك بفضل نعمة الرّوح القدس، الّتي تفتح دروبًا جديدة وغير متوقعة أمام خطوات الرّبّ القائم والقائل لنا اليّوم: «لم تَخْتاروني أَنتُم، بل أَنا اختَرتُكم وأَقمتُكُم لِتَذهَبوا فَتُثمِروا ويَبْقى ثَمَرُكم فيُعطِيَكُمُ الآبُ كُلَّ ما تَسأَلونَهُ بِاسمي. ما أُوصيكُم بِه هو: أَحِبُّوا بَعضُكم بَعضاً» (يو 15: 16-17). دُمتم في قبول لفيض الحبّ والّذي مثدره يسوع فيحملنا للتعمق في حياة الآب والابن والرّوح القدس.